فصل: تفسير الآيات رقم (36- 48)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 48‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

قال الجمهور، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم‏:‏ خطب الرسول لزيد زينب بنت جحش، فأبت وقالت‏:‏ لست بناكحة، فقال‏:‏ «بلى فأنكحيه فقد رضيته لك»، فأبت، فنزلت‏.‏ وذكر أنها وأخاها عبد الله كرها ذلك، فلما نزلت الآية رضيا‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ وهبت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول امرأة وهبت للنبي صلى الله عليه وسلم نفسها، فقال‏:‏ «قد قبلتك وزوجتك زيد بن حارثة»، فسخطت هي وأخوها، قالا‏:‏ إنما أردناه فزوجنا عبده، فنزلت، والسبب الأول أصح‏.‏ ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر تلك الأوصاف السابقة من الإسلام فما بعده، عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين، إذ أشار الرسول بأمر وقع منهم الإباء له، فأنكر عليهم، إذ طاعته، عليه السلام، من طاعة الله، وأمره من أمره‏.‏

و ‏{‏الخيرة‏}‏‏:‏ مصدر من تخير على غير قياس، كالطيرة من تطير‏.‏ وقرئ‏:‏ بسكون الياء، ذكره عيسى بن سليمان‏.‏ وقرأ الحرميان، والعربيان، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، وعيسى‏:‏ أن تكون، بتاء التأنيث؛ والكوفيون، والحسن، والأعمش، والسلمي‏:‏ بالياء‏.‏ ولما كان قوله‏:‏ ‏{‏لمؤمن ولا مؤمنة‏}‏، يعم في سياق النفي، جاء الضمير مجموعاً على المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏، مغلباً فيه المذكر على المؤنث‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كان من حق الضمير أن يوحد، كما تقول‏:‏ ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا‏.‏ انتهى‏.‏ ليس كما ذكر، لأن هذا عطف بالواو، فلا يجوز إفراد الضمير إلا على تأويل الحذف، أي‏:‏ ما جاءني من رجل إلا كان من شأنه كذا، وتقول‏:‏ ما جاء زيد ولا عمرو إلا ضربا خالداً، ولا يجوز إلا ضرب إلا على الحذف، كما قلنا‏.‏

‏{‏وإذ تقول‏}‏‏:‏ الخطاب للرسول، عليه السلام‏.‏ ‏{‏للذي أنعم الله عليه‏}‏، بالإسلام، وهو أجل النعم، وهو زيد بن حارثة الذي كان الرسول تبناه‏.‏ ‏{‏وأنعمت عليه‏}‏‏:‏ وهو عتقه، وتقدّم طرف من قصته في أوائل السورة‏.‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏‏:‏ وهي زينب بنت جحش، وتقدّم أن الرسول كان خطبها له‏.‏ وقيل‏:‏ أنعم الله عليه بصحبتك ومودتك، وأنعمت عليه بتبنيه‏.‏ فجاء زيد فقال‏:‏ يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال‏:‏ «أرابك منها شيء» قال‏:‏ لا والله ولكنها تعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال‏:‏ «‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏»، أي لا تطلقها، وهو أمر ندب، «‏{‏واتق الله‏}‏ في معاشرتها» فطلقها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد انقضاء عدّتها‏.‏ وعلل تزويجه إياها بقوله‏:‏ ‏{‏لكي لا يكون على المؤمنين حرج‏}‏ في أن يتزوجوا زوجات من كانوا تبنوه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم في قوله‏:‏

‏{‏وحلائل أبنائكم‏}‏ وقال علي بن الحسين‏:‏ كان قد أوحى الله إليه أن زيداً سيطلقها، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها‏.‏ فلما شكا زيد خلقها، وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها، قال‏:‏ له «‏{‏أمسك عليك زوجك واتق الله‏}‏»، على طريق الأدب والوصية، وهو يعلم أنه سيطلقها‏.‏ وهذا هو الذي أخفي في نفسه، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق‏.‏ ولما علم من أنه سيطلقها، وخشي رسول الله أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه الله بأن قال؛ ‏{‏أمسك‏}‏، مع علمه أنه يطلق، فأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا المروي عن علي بن الحسين، هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهري، وبكر بن العلاء، والقشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏، إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم في حركاته وسكناته‏.‏ ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة، ضربنا عنه صفحاً‏.‏ وقيل؛ قوله ‏{‏واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه‏}‏‏:‏ خطاب من الله عز وجل، أو من النبي صلى الله عليه وسلم لزيد، فإنه أخفى الميل إليها، وأظهر الرغبة عنها، لما توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن تكون من نسائه‏.‏ انتهى‏.‏

وللزمخشري‏:‏ في هذه الآية كلام طويل، وبعضه لا يليق ذكره بما فيه غير صواب مما جرى فيه على مذهب الاعتزال وغيره، واخترت منه ما أنصه‏.‏ قال‏:‏ كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيي من إطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله‏.‏ وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات، لعظم أثرها في الدين، ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه، لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم، إلا من أوتي فضلاً وعلماً وديناً ونظراً في حقائق الأشياء ولبابها دون قشورها‏.‏ ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يديمون مستأنسين بالحديث‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم، ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصدّه أن يأمرهم بالانتشار حتى نزلت‏:‏ ‏{‏إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منك والله لا يستحيي من الحق‏}‏‏.‏ ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون ضميره، وأمرهم أن ينتشروا، لشق عليهم، ولكان بعض المقالة‏.‏ فهذا من ذلك القبيل، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته، من امرأة أو غيرها، غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع‏.‏

وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضاً، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه‏.‏ ولم يكن مستنكراً عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه، ولا مستهجناً إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر‏.‏ فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة، استهم الأنصار بكل شيء، حتى أن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر‏.‏ وإذا كان الأمر مباحاً من جميع جهاته، ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح، ولا مفسدة ولا مضرة بزيد ولا بأحد، بل كان مستجراً مصالح؛ ناهيك بواحدة منها‏:‏ أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أماً من أمّهات المؤمنين، إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامّة في قوله‏:‏ ‏{‏لكي لا يكون‏}‏ الآية‏.‏ انتهى ما اخترناه من كلام الزمخشري‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أمسك عليك‏}‏ فيه وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد، فهو كقوله‏:‏

هوّن عليك ودع عنك نهياً صيح في حجراته *** وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان، ولا يجوز أن يكونا حرفين، لامتناع فكر فيك، وأعني بك، بل هذا مما يكون فيه النفس، أي فكر في نفسك، وأعني بنفسك، وقد تكلمنا على هذا في قوله‏:‏ ‏{‏وهزي إليك‏}‏ ‏{‏واضمم إليك جناحك‏}‏ وقال الحوفي‏:‏ ‏{‏وتخفي في نفسك‏}‏‏:‏ مستأنف، ‏{‏وتخشى‏}‏‏:‏ معطوف على وتخفي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ واو الحال، أي تقول لزيد‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏، مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفي خاشياً قاله الناس، أو واو العطف، كأنه قيل‏:‏ وأن تجمع بين قولك‏:‏ ‏{‏أمسك‏}‏، وإخفاء قالة، وخشية الناس‏.‏ انتهى‏.‏ ولا يكون ‏{‏وتخفي‏}‏ حالاً على إضمار مبتدأ، أي وأنت تخفي، لأنه مضارع مثبت، فلا يدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار، وهو مع ذلك قليل نادر، لا يبنى على مثله القواعد؛ ومنه قولهم‏:‏ قمت وأصك عينه، أي وأنا أصك عينه‏.‏ ‏{‏والله أحق أن تخشاه‏}‏ تقدّم إعراب نظيره في التوبة‏.‏

‏{‏فلما قضى زيد منها وطراً‏}‏‏:‏ أي حاجة، قيل‏:‏ وهو الجماع، قاله ابن عباس‏.‏ وروي أبو عصمة‏:‏ نوح ابن أبي مريم، بإسناد رفعه إلى زينب أنها قالت‏:‏ ما كنت أمتنع منه، غير أن الله منعني منه‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مذ تزوجها لم يتمكن من الاستمتاع بها‏.‏ وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الوطر هنا‏:‏ الطلاق‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏زوجناكها‏}‏، بنون العظمة؛ وجعفر بن محمد، وابن الحنفية، وأخواه الحسن والحسين، وأبوهم علي‏:‏ زوجتكها، بتاء الضمير للمتكلم‏.‏ ونفى تعالى الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهن بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن‏.‏ ‏{‏وكان أمر الله‏}‏‏:‏ أي مقتضى أمر الله، أو مضمن أمره‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏وكان أمر الله‏}‏ الذي يريد أن يكونه، ‏{‏مفعولاً‏}‏‏:‏ مكوناً لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب‏.‏ ويجوز أن يراد بأمر الله المكون، لأنه مفعول يكن‏.‏ ولما نفى الحرج عن المؤمنين فيما ذكر، واندرج الرسول فيهم، إذ هو سيد المؤمنين، نفى عنه الحرج بخصوصه، وذلك على سبيل التكريم والتشريف، ونفى الحرج عنه مرتين، إحداهما بالاندراج في العموم، والأخرى بالخصوص‏.‏

‏{‏فيما فرض الله له‏}‏، قال الحسن‏:‏ فيما خص به من صحة النكاح بلا صداق‏.‏ وقال قتادة‏:‏ فيما أحل له‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ في الزيادة على الأربع، وكانت اليهود عابوه بكثرة النكاح وكثرة الأزواج، فرد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏سنة الله‏}‏‏:‏ أي في الأنبياء بكثرة النساء، حتى كان لسليمان، عليه السلام، ثلاثمائة حرة وسبعماية سرية، وكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية‏.‏ وقيل‏:‏ الإشارة إلى أن الرسول جمع بينه وبين زينب، كما جمع بين داود وبين التي تزوجها بعد قتل زوجها‏.‏ وانتصب ‏{‏سنة الله‏}‏ على أنه اسم موضوع موضع المصدر، قاله الزمخشري؛ أو على المصدر؛ أو على إضمار فعل تقديره‏:‏ ألزم أو نحوه، أو على الإغراء، كأنه قال‏:‏ فعليه سنة الله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقوله‏:‏ أو على الإغراء، ليس بجيد، لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه، وأيضاً فتقديره‏:‏ فعليه سنة الله بضمير الغيبة، ولا يجوز ذلك في الإغراء، إذ لا يغرى غائب‏.‏ وما جاء من قولهم‏:‏ عليه رجلاً، ليسنى له تأويل، وهو مع ذلك نادر‏.‏ و‏{‏الذين خلوا‏}‏‏:‏ الأنبياء، بدليل وصفهم بعد قوله‏:‏ ‏{‏الذين يبلغون رسالات الله‏}‏‏.‏ ‏{‏وكان أمر الله‏}‏‏:‏ أي مأموراته، والكائنات من أمره، فهي مقدورة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قدراً‏}‏‏:‏ أي ذا قدر، أو عن قدر، أو قضاء مقضياً وحكماً مثبوتاً‏.‏ و‏{‏الذين‏}‏‏:‏ صفة الذين خلوا، أو مرفوع، أو منصوب على إضمارهم، أو على أمدح‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ الذين بلغوا، جعله فعلاً ماضياً‏.‏ وقرأ أبي‏:‏ رسالة الله على التوحيد؛ والجمهور‏:‏ يبلغون رسالات جمعاً‏.‏ ‏{‏وكفى بالله حسيباً‏}‏‏:‏ أي محاسباً على جميع الأعمال والعقائد، أو محسباً‏:‏ أي كافياً‏.‏

ثم نفى تعالى كون رسوله ‏{‏أبا أحد من رجالكم‏}‏، بينه وبين من تبناه من حرمة الصهارة والنكاح ما يثبت بين الأب وولده‏.‏ هذا مقصود هذه الجملة، وليس المقصود أنه لم يكن له ولد، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين‏.‏ وإضافة رجالكم إلى ضمير المخاطبين يخرج من كان من بنيه، لأنهم رجاله، لا رجال المخاطبين‏.‏ وقرأ الجمهور؛ ‏{‏ولكن رسول‏}‏، بتخفيف لكن ونصب رسول على إضمار كان، لدلالة كان المتقدّمة عليه؛ قيل‏:‏ أو على العطف على ‏{‏أبا أحد‏}‏‏.‏

وقرأ عبد الوارث، عن أبي عمرو‏:‏ بالتشديد والنصب على أنه خبر لكن، والخبر محذوف تقديره‏:‏ ‏{‏ولكن رسول الله وخاتم النبيين‏}‏ هو، أي محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وحذف خبر لكن واخواتها جائز إذا دل عليه الدليل‏.‏ ومما جاء في ذلك قول الشاعر‏:‏

فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي *** ولكنّ زنجياً عظيم المشافر

أي‏:‏ أنت لا تعرف قرابتي‏.‏ وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة‏:‏ بالتخفيف، ورفع ورسوله وخاتم، أي ولكن هو رسول الله، كما قال الشاعر‏:‏

ولست الشاعر السقاف فيهم *** ولكن مدرة الحرب العوال

أي‏:‏ لكن أنا مدرة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏خاتم‏}‏، بكسر التاء، بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ أنا خاتم نبي، وعنه‏:‏ أنا خاتم النبيين في حديث واللبنة‏.‏ وروي عنه، عليه السلام، ألفاظ تقتضي نصاً أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، والمعنى أن لا يتنبأ أحد بعده، ولا يرد نزول عيسى آخر الزمان، لأنه ممن نبئ قبله، وينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصلياً إلى قبلته كأنه بعض أمته‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية، من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف، وما ذكره الغزالي في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد، وتطرق إلى ترك تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة، فالحذر الحذر منه، والله الهادي برحمته‏.‏ وقرأ الحسن، والشعبي، وزيد بن علي، والأعرج‏:‏ بخلاف؛ وعاصم‏:‏ بفتح التاء بمعنى‏:‏ أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم‏.‏

ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي، فهو زنديق يجب قتله‏.‏ وقد ادعى النبوة ناس، فقتلهم المسلمون على ذلك‏.‏ وكان في عصرنا شخص من الفقراء ادعى النبوة بمدينة مالقة، فقتله السلطان بن الأحمر، ملك الأندلس بغرناطة، وصلب إلى أن تناثر لحمه‏.‏

‏{‏وكان الله بكل شيء عليماً‏}‏‏:‏ هذا عام، والقصد هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح لرسوله، وبما قدّره في الأمر كله، ثم أمر المؤمنين بذكره بالثناء عليه وتحميده وتقديسه، وتنزيهه عما لا يليق به‏.‏ والذكر الكثير، قال ابن عباس‏:‏ أن لا ينساه أبداً، أو التسبيح مندرج في الذكر، لكنه خص بأنه ينزهه تعالى عما لا يليق به، فهو أفضل، أو من أفضل الأذكار‏.‏ وعن قتادة‏:‏ قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب‏.‏ و‏{‏بكرة وأصيلاً‏}‏‏:‏ يقتضيهما اذكروا وسبحوا، والنصب بالثاني على طريق الإعمال، والوقتان كناية عن جميع الزمان، ذكر الطرفين إشعار بالاستغراق‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي صلوا صلاة الفجر والعشاء‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ ما بين العصر إلى العشاء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الإشارة بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر؛ ويجوز أن يكون الأمر بالذكر وإكثاره تكثير الطاعات والإقبال على الطاعات، فإن كل طاعة وكل خير من جملة الذكر‏.‏ ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلاً، وهي الصلاة في جميع أوقاتها، تفضل الصلاة غيرها، أو صلاة الفجر والعشاء، لأن أداءهما أشق‏.‏

ولما أمرهم بالذكر والتسبيح، ذكر إحسانه تعالى بصلاته عليهم هو وملائكته‏.‏ قال الحسن‏:‏ ‏{‏يصلي عليكم‏}‏‏:‏ يرحمكم‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ يغفر لكم‏.‏ وقال أبو العالية يثني عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ يترأف بكم‏.‏ وصلاة الملائكة الاستغفار، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏ وقال مقاتل‏:‏ الدعاء، والمعنى‏:‏ هو الذي يترحم عليكم، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار الذكر والطاعة، ليخرجكم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ من الضلالة إلى الهدى‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ من الكفر إلى الإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ من النار إلى الجنة، حكاه الماوردي‏.‏ وقيل‏:‏ من القبور إلى البعث‏.‏ ‏{‏وملائكته‏}‏‏:‏ معطوف على الضمير المرفوع المستكن في ‏{‏يصلي‏}‏، فأغنى الفصل بالجار والمجرور عن التأكيد، وصلاة الله غير صلاة الملائكة، فكيف اشتركا في قدر مشترك‏؟‏ وهو إرادة وصول الخير إليهم‏.‏ فالله تعالى يريد برحمته إياهم إيصال الخير إليهم، وملائكته يريدون بالاستغفار ذلك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة، كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة، ونظيره قولهم‏:‏ حياك الله‏:‏ أي أحياك وأبقاك، وحييتك‏:‏ أي دعوت لك بأن يحييك الله، لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة؛ وكذلك عمرك الله وعمرتك، وسقاك الله وسقيتك، وعليه قوله؛ ‏{‏إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه‏}‏‏:‏ أي ادعوا له بأن يصلى عليه‏.‏ ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏‏:‏ دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة‏.‏ انتهى‏.‏ وما ذكره من قوله، كأنهم فاعلون فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، وما ذكرناه من أن الصلاتين اشتركتا في قدر مشترك أولى‏.‏

‏{‏تحيتهم يوم يلقونه‏}‏‏:‏ أي يوم القيامة‏.‏ ‏{‏سلام‏}‏‏:‏ أي تحية الله لهم‏.‏ يقول للمؤمنين‏:‏ السلام عليكم، مرحباً بعبادي الذين أرضوني باتباع أمري، قاله الرقاشي‏.‏ وقيل‏:‏ يحييهم الملائكة بالسلامة من كل مكروه‏.‏ وقال البراء بن عازب‏:‏ معناه أن ملك الموت لا يقبض روح المؤمن حتى يسلم عليه‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال‏:‏ ربك يقرؤك السلام، قيل‏:‏ فعلى هذا الهاء في قوله‏:‏ ‏{‏يلقونه‏}‏ كناية عن غير مذكور، وقيل‏:‏ سلام الملائكة عند خروجهم من القبور‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضاً بالسلام، أي سلمنا وسلمت من كل مخوف‏.‏ وقيل‏:‏ تحييهم الملائكة يومئذ‏.‏ وقيل‏:‏ هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم، وبشارتهم بالجنة‏.‏ والتحية مصدر في هذه الأقوال أضيف إلى المفعول، إلا في قول من قال إنه مصدر مضاف للمحيي والمحيا، لا على جهة العمل، لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلاً مفعولاً، ولكنه كقوله‏:‏

‏{‏وكنا لحكمهم شاهدين‏}‏ أي للحكم الذي جرى بينهم، وليبعث إليهم، فكذلك هذه التحية الجارية بينهم هي سلام‏.‏ وفرق المبرد بين التحية والسلام فقال‏:‏ التحية يكون ذلك دعاء، والسلام مخصوص، ومنه‏:‏ ‏{‏ويلقون فيها تحية وسلاماً‏}‏ والأجر الكريم‏:‏ الجنة، ‏{‏شاهداً‏}‏ على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي مفعولاً قولك عند الله، وشاهداً بالتبليغ إليهم، وبتبليغ الأنبياء قولك‏.‏ وانتصب ‏{‏شاهداً‏}‏ على أنه حال مقدّرة، إذا كان قولك عند الله وقت الإرسال لم يكن شاهداً عليهم، وإنما يكون شاهداً عند تحمل الشهادة وعند أدائها، أو لأنه أقرب زمان البعثة، وإيمان من آمن وتكذيب من كذب كان ذلك وقع في زمان واحد‏.‏

‏{‏وداعياً إلى الله‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ وقال ابن عيسى‏:‏ إلى الطاعة‏.‏ ‏{‏بإذنه‏}‏‏:‏ أي بتسهيله وتيسيره، ولا يراد به حقيقة الإذن، لأنه قد فهم في قوله‏:‏ إنا أرسلناك داعياً أنه مأذون له في الدعاء‏.‏ ولما كان دعاء المشرك إلى التوحيد صعباً جداً، قيل‏:‏ بإذنه، أي بتسهيله تعالى‏.‏ و‏{‏سراجاً منيراً‏}‏‏:‏ جلي من ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير‏.‏ ويهتدى به إذا مد الله بنور نبوته نور البصائر، كما يمد بنور السراج نور الأبصار‏.‏ ووصفه بالإنارة، لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو معطوف على ‏{‏شاهداً‏}‏، أي وذا سراج منير، أي كتاب نير‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إن شئت كان نصباً على معنى‏:‏ وتالياً سراجاً منيراً‏.‏ وقال الزمخشري؛ ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف ‏{‏أرسلناك‏}‏‏.‏ انتهى‏.‏ ولا يتضح هذا الذي قاله، إذ يصير المعنى‏:‏ أرسلنا ذا سراج منير، وهو القرآن‏.‏ ولا يوصف بالإرسال القرآن، إنما يوصف بالإنزال‏.‏ وكذلك أيضاً إذا كان التقدير‏:‏ وتالياً، يصير المعنى‏:‏ أرسلنا تالياً سراجاً منيراً، ففيه عطف الصفة التي للذات على الذات، كقولك‏:‏ رأيت زيداً والعالم‏.‏ إذا كان العالم صفة لزيد، والعطف مشعر بالتغاير، لا يحسن مثل هذا التخريج في كلام الله، وثم حمل على ما تقتضيه الفصاحة والبلاغة‏.‏

ولما ذكر تعالى أنه أرسل نبيه ‏{‏شاهداً‏}‏ إلى آخره، تضمن ذلك الأمر بتلك الأحوال، فكأنه قال؛ فاشهد وبشر وأنذر وادع وانه، ثم قال؛ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏؛ فهذا متصل بما قبله من جهة المعنى، وإن كان يظهر أنه منقطع من الذي قبله‏.‏ والفضل الكبير الثواب من قولهم‏:‏ للعطايا فضول وفواضل، أو المزيد على الثواب‏.‏ وإذا ذكر المتفضل به وكبره، فما ظنك بالثواب‏؟‏ أو ما فضلوا به على سائر الأمم، وذلك من جهته تعالى، أو الجنة وما أوتوا فيها، ويفسره‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير‏}‏ ‏{‏ولا تطع الكافرين والمنافقين‏}‏‏:‏ نهي له عليه السلام عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب، وفي أشياء ينتصحون بها وهي غش‏.‏ ‏{‏ودع أذاهم‏}‏‏:‏ الظاهر إضافته إلى المفعول‏.‏ لما نهى عن طاعتهم، أمر بتركه إذايتهم وعقوبتهم، ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف‏.‏ ‏{‏وتوكل على الله‏}‏، فإنه ينصرك ويخذلهم‏.‏ ويجوز أن يكون مصدراً مضافاً للفاعل، أي ودع إذايتهم إياك، أي مجازاة الإذاية من عقاب وغيره حتى تؤمر، وهذا تأويل مجاهد‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى قصة زيد وزينب وتطليقه إياها، وكانت مدخولاً بها، واعتدت، وخطبها الرسول، عليه السلام، بعد انقضاء عدتها، بين حال من طلقت قبل المسيس، وأنها لا عدة عليها‏.‏

ومعنى ‏{‏نكحتم‏}‏‏:‏ عقدتم عليهن‏.‏ وسمى العقد نكاحاً لأنه سبب إليه، كما سميت الخمر إثماً لأنها سبب له‏.‏ قالوا‏:‏ ولفظ النكاح في كتاب الله لم يرد إلا في العقد، وهو من آداب القرآن؛ كما كنى عن الوطء بالمماسة والملامسة والقربان والتغشي والإتيان، قيل‏:‏ إلا في قوله‏:‏ ‏{‏حتى تنكح زوجاً غيره‏}‏ فإنه بمعنى الوطء، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة‏.‏ والكتابيات، وإن شاركت المؤمنات في هذا الحكم، فتخصيص المؤمنات بالذكر تنبيه على أن المؤمن لا ينبغي أن يتخير لنطفته إلا المؤمنة‏.‏ وفائدة المجيء بثم، وإن كان الحكم ثابتاً، إن تزوجت وطلقت على الفور، ولمن تأخر طلاقها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ نفي التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها، وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح، وتتراخى بها المدة في حيالة الزوج ثم يطلقها‏.‏ انتهى‏.‏ واستعمل صلة لمن عسى، وهو لا يجوز، أو لوحظ في ذلك الغالب‏.‏ فإن من أقدم على العقد على امرأة، إنما يكون ذلك لرغبة، فيبعد أن يطلقها على الفور، لأن الطلاق مشعر بعدم الرغبة، فلا بد أن يتخلل بين العقد والطلاق مهلة يظهر فيها للزوج نأيه عن المرأة، وأن المصلحة في ذلك له‏.‏ والظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد، ولا يصح طلاق من لم يعقد عليها عينها أو قبيلتها أو البلد، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين‏.‏ وقالت طائفة كبيرة، منهم مالك‏:‏ يصح ذلك‏.‏ والظاهر أن المسيس هنا كناية عن الجماع، وأنه إذا خلا بها ثم طلقها، لا يعقد‏.‏ وعند أبي حنيفة وأصحابه‏:‏ حكم الخلوة الصحيحة حكم المسيس‏.‏ والظاهر أن المطلقة رجعية، إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها، ثم فارقها قبل أن يمسها، لا تتم عدتها من الطلقة الأولى، ولا تستقبل عدة، لأنها مطلقة قبل الدخول، وبه قال داود‏.‏ وقال عطاء وجماعة‏:‏ تمضي في عدتها عن طلاقها الأول، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا تبنى على العدة من الطلاق الأول، وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني، وهو قول فقهاء جمهور الأمصار‏.‏ والظاهر أيضاً أنها لو كانت بائناً غير مبتوتة، فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول، كالرجعية في قول داود، ليس عليها عدة، لا بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة الثاني، ولها نصف المهر‏.‏ وقال الحسن، وعطاء، وعكرمة، وابن شهاب، ومالك، والشافعي، وعثمان البتي، وزفر‏:‏ لها نصف الصداق، وتتم بقية العدة الأولى‏.‏ وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأبو يونس‏:‏ لها مهر كامل للنكاح الثاني، وعدة مستقبلة، جعلوها في حكم المدخول بها، لاعتدادها من مائة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تعتدونها‏}‏، بتشديد الدال‏:‏ افتعل من العد، أي تستوفون عددها، من قولك‏:‏ عد الدراهم فاعتدها، أي استوفى عددها؛ نحو قولك‏:‏ كلته واكتاله، وزنته فاتزنته‏.‏ وعن ابن كثير وغيره من أهل مكة‏:‏ بتخفيف الدال، ونقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وروي عن أبي برزة، عن ابن كثير‏:‏ بتخفيف الدال من العدوان، كأنه قال‏:‏ فما لكم عدة تلزمونها عدواناً وظلماً لهنّ، والقراءة الأولى أشهر عن ابن كثير، وتخفيف الدال وهم من أبي برزة‏.‏ انتهى‏.‏ وليس بوهم، إذ قد نقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي في ‏(‏كتاب اللوامح في شواذ القراءات‏)‏، ونقلها الرازي المذكور عن أهل مكة وقال‏:‏ هو من الإعتداد لا محالة، لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه‏.‏ فإن جعلت من الاعتداء الذي هو الظلم ضعف، لأن الاعتداء يتعدى بعلى‏.‏ انتهى‏.‏ وإذا كان يتعدى بعلى، فيجوز أن لا يحذف على، ويصل الفعل إلى الضمير، نحو قوله‏:‏

تحن فتبدى ما بها من صبابة *** وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني

أي‏:‏ لقضى علي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقرئ‏:‏ تعتدونها مخففاً، أي تعتدون فيها، كقوله‏:‏ ويوماً شهدناه‏.‏ والمراد بالاعتداء ما في قوله‏:‏ ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا‏.‏ انتهى‏.‏ ويعني أنه اتصل بالفعل لما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدة، كقوله‏:‏

ويوماً شهدناه سليماً وعامراً *** أي‏:‏ شهدنا فيه‏.‏ وأما على تقدير على، فالمعنى‏:‏ تعتدون عليهنّ فيها‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ بإسكان العين كغيره، وتشديد الدال جمعاً بين الساكنين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فما لكم‏}‏ يدل على أن العدة حق الزوج فيها غالب، وإن كانت لا تسقط بإسقاطه، لما فيه من حق الله تعالى‏.‏ والظاهر أن من طلقت قبل المسيس لها المتعة مطلقاً، سواء كانت ممدودة أم مفروضاً لها‏.‏ وقيل‏:‏ يختص هذا الحكم بمن لا مسمى لها‏.‏ والظاهر أن الأمر في ‏{‏فمتعوهنّ‏}‏ للوجوب، وقيل‏:‏ للندب، وتقدم الكلام مشبعاً في المتعة في البقرة‏.‏ والسراج الجميل‏:‏ هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب‏.‏ وقيل‏:‏ أن لا يطالبها بما آتاها‏.‏ ولما بين تعالى بعض أحكام أنكحة المؤمنين، أتبعه بذكر طرف من نساء النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والأجور‏:‏ المهور، لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع‏.‏ وفي وصفهنّ ب ‏{‏اللاتي آتيت أجورهنّ‏}‏، تنبيه على أن الله اختار لنبيه الأفضل والأولى، لأن إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره، ليتفصى الزوج عن عهدة الدين وشغل ذمته به، ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجاناً دون عوض تسلمته، والتعجيل كان سنة السلف، لا يعرف منهم غيره‏.‏ ألا ترى إلى قوله، عليه السلام، لبعض الصحابة حين شكا حالة التزوج‏:‏

«فأين درعك الحطمية»‏؟‏ وكذلك تخصيص ما ملكت يمينه بقوله‏:‏ ‏{‏مما أفاء الله عليك‏}‏، لأنها إذا كانت مسبية، فملكها مما غنمه الله من أهل دار الحرب كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب‏.‏ فما سبي من دار الحرب قيل فيه سبي طيبة، وممن له عهد قيل فيه سبي خبيثة، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏، مخصوص لفظة أزواجك بمن كانت في عصمته، كعائشة وحفصة، ومن تزوجها بمهر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ أي من تزوجها بمهر، ومن تزوجها بلا مهر، وجميع النساء حتى ذوات المحارم من ممهورة ورقيقة وواهبة نفسها مخصوصة به‏.‏ ثم قال بعد ‏{‏ترجي من تشاء منهنّ‏}‏‏:‏ أي من هذه الأصناف كلها، ثم الضمير بعد ذلك يعم إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا أن تبدل بهنّ من أزواج‏}‏، فينقطع من الأول ويعود على أزواجه التسع فقط، وفي التأيل الأول تضييق‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج أي النساء شاء، وكان ذلك يشق على نسائه‏.‏ فلما نزلت هذه الآية، وحرم عليه بها النساء، إلا من سمي سر نساؤه بذلك، وملك اليمين إنما يعلقه في النادر، وبنات العم، ومن ذكر معهنّ يسير‏.‏ ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه، ولا سيما وقد قرن بشرط الهجرة، والواجب أيضاً من النساء قليل، فلذلك سر بانحصار الأمر‏.‏ ثم مجيء ‏{‏ترجي من تشاء منهن‏}‏، إشارة إلى ما تقدم، ثم مجيء ‏{‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏، إشارة إلى أن أزواجه اللواتي تقدم النص عليهن بالتحليل، فيأتي الكلام مثبتاً مطرداً أكثر من اطراده على التأويل الآخر‏.‏

‏{‏وبنات عمك‏}‏، قالت أم هانئ، بنت أبي طالب‏:‏ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه فعذرني، ثم نزلت هذه الآية فحرمتني عليه، لأني لم أهاجر معه، وإنما كنت من الطلقاء‏.‏ والتخصيص ب ‏{‏اللاتي هاجرن معك‏}‏، لأن من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات‏.‏ وقيل‏:‏ شرط الهجرة في التحليل منسوخ‏.‏ وحكى الماوردي في ذلك قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق‏.‏ والثاني‏:‏ أنه شرط في إحلال قرابات المذكورات في الآية دون الأجنبيات، والمعية هنا‏:‏ الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها، فيقال‏:‏ دخل فلان معي وخرج معي، أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان‏.‏ ولو قلت‏:‏ فرجعنا معاً، اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل، والاقتران في الزمان‏.‏ وأفرد العم والخال لأنه اسم جنس، والعمة والخالة كذلك، وهذا حرف لغوي قاله أبو بكر بن العربي القاضي‏.‏

‏{‏وامرأة مؤمنة‏}‏، قال ابن عباس، وقتادة‏:‏ هي ميمونة بنت الحارث‏.‏ وقال علي بن الحسين، والضحاك، ومقاتل‏:‏ هي أم شريك‏.‏ وقال عروة، والشعبي‏:‏ هي زينب بنت خزيمة، أم المساكين، امرأة من الأنصار‏.‏

وقال عروة أيضاً‏:‏ هي خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية‏.‏ واختلف في ذلك‏.‏ فعن ابن عباس‏:‏ لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهن بالهبة‏.‏ وقيل‏:‏ الموهبات أربع‏:‏ ميمونة بنت الحارث، ومن ذكر معها قبل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وامرأة‏}‏، بالنصب؛ ‏{‏إن وهبت‏}‏، بكسر الهمزة‏:‏ أي أحللناها لك‏.‏ ‏{‏إن وهبت‏}‏، ‏{‏إن أراد‏}‏، فهنا شرطان، والثاني في معنى الحال، شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي، كأنه قال‏:‏ أحللناها لك إن وهبت لك نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، لأن إرادته هي قبوله الهبة وما به تتم، وهذان الشرطان نظير الشرطين في قوله‏:‏ ‏{‏ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، إن كان الله يريد أن يغويكم‏}‏ وإذا اجتمع شرطان، فالثاني شرط في الأول، متأخر في اللفظ، متقدم في الوقوع، ما لم تدل قرينة على الترتيب، نحو‏:‏ إن تزوجتك أو طلقتك فعبدي حر‏.‏ واجتماع الشرطين مسألة فيها خلاف وتفصيل، وقد استوفينا ذلك في ‏(‏شرح التسهيل‏)‏، في باب الجوازم‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ وامرأة مؤمنة، بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف‏:‏ أي أحللناها لك‏.‏ وقرأ أبي، والحسن، والشعبي، وعيسى، وسلام‏:‏ أن بفتح الهمزة، وتقديره‏:‏ لأن وهبت، وذلك حكم في امرأة بعينها، فهو فعل ماض، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها دون واحدة بعينها‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ اذ وهبت، إذ ظرف لما مضى، فهو في امرأة بعينها‏.‏

وعدل عن الخطاب إلى الغيبة في النبي، ‏{‏إن أراد النبي‏}‏، ثم رجع إلى الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏خالصة لك‏}‏، للإيذان بأنه مما خص به وأوثر‏.‏ ومجيئه على لفظ النبي، لدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته‏.‏ واستنكاحها‏:‏ طلب نكاحها والرغبة فيه‏.‏ والجمهور‏:‏ على أن التزويج لا يجوز بلفظ الإجارة ولا بلفظ الهبة‏.‏ وقال أبو الحسن الكرخي‏:‏ يجوز بلفظ الإجارة لقوله‏:‏ ‏{‏اللاتي آتيت أجورهن‏}‏، وحجة من منع‏:‏ أن عقد الإجارة مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فتنافيا‏.‏ وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى جواز عقد النكاح بلفظ الهبة إذا وهبت، فأشهد على نفسه بمهر، لأن رسول الله وأمته سواء في الأحكام، إلا فيما خصه الدليل‏.‏ وحجة الجمهور‏:‏ أنه، عليه السلام، خص بمعنى الهبة ولفظها جميعاً، لأن اللفظ تابع للمعنى، والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏خالصة‏}‏، بالنصب، وهو مصدر مؤكد، ‏{‏كوعد الله‏}‏ و‏{‏صبغة الله‏}‏ أي أخلص لك إخلاصاً‏.‏ ‏{‏أحللنا‏}‏، ‏{‏خالصة‏}‏ بمعنى خلوصاً، ويجئ المصدر على فاعل وعلى فاعلة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والفاعل والفاعلة في المصادر على غير عزيزين، كالخارج والقاعد والعاقبة والكاذبة‏.‏ انتهى، وليس كما ذكر، بل هما عزيزان، وتمثيله كالخارج يشير إلى قول الفرزدق‏:‏

ولا خارج من في زور كلام‏.‏‏.‏‏.‏

والقاعد إلى أحد التأويلين في قوله‏:‏

أقاعداً وقد سار الركب *** والكاذبة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لوقعتها كاذبة‏}‏ وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر‏.‏ وقرئ‏:‏ خالصة، بالرفع، فمن جعله مصدراً، قدره ذلك خلوص لك، وخلوص من دون المؤمنين‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏خالصة لك‏}‏ من صفة الواهبة نفسها لك، فقراءة النصب على الحال، قاله الزجاج‏:‏ أي أحللناها خالصة لك، والرفع خبر مبتدأ‏:‏ أي هي خالصة لك، أي هبة النساء أنفسهنّ مختص بك، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك‏.‏ وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره، عليه السلام‏.‏ ويظهر من كلام أبيّ بن كعب أن معنى قوله‏:‏ ‏{‏خالصة لك‏}‏ يراد به جميع هذه الإباحة، لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، على سبيل التوكيد لها قوله‏:‏ ‏{‏قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم‏}‏، بعد قوله‏:‏ ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏، وهي جملة اعتراضية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏ متصل ب ‏{‏خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ في الأزواج الإماء، وعلى أي حد وصفه يجب أن يفرض عليهم، ففرضه وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصه به، ففعل‏.‏

ومعنى ‏{‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏‏:‏ أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك، حيث اختصصناك بالتنزيه، واختصاص ما هو أولى وأفضل في دنياك، حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات، وزدناك الواهبة نفسها؛ ومن جعل خالصة نعتاً للمرأة، فعلى مذهبه هذه المرأة خالصة لك من دونهم‏.‏ انتهى‏.‏ والظاهر أن ‏{‏لكيلا‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏أحللنا لك أزواجك‏}‏‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏لكيلا يكون‏}‏، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لكي لا يكون عليك حرج، ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك، ثم آنس جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏غفوراً‏}‏ للواقع في الحرج إذا تاب، ‏{‏رحيماً‏}‏ بالتوسعة على عباده‏.‏ انتهى، وفيه دسيسه اعتزالية‏.‏ ‏{‏قد علمنا ما فرضنا عليهم‏}‏ الآية، معناه‏:‏ أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك، وأما حكم أمتك فعندنا علمه، وسنبينه لهم‏.‏ وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن له في النكاح والتسري خصائص ليست لغيره‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏ما فرضنا عليهم‏}‏، هو أن لا يجاوزوا أربعاً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو الولي والشهود والمهر‏.‏ وقيل‏:‏ ما فرضنا من المهر والنفقة والكسوة‏.‏ ‏{‏وما ملكت أيمانهم‏}‏، قيل‏:‏ لا يثبت الملك إلا إذا كانت ممن يجوز سبيها‏.‏ وقيل‏:‏ ما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور، والمعنى‏:‏ قد علمنا إصلاح كل منك ومن أمتك، وما هو الأصلح لك ولهم، فشرعنا في حقك وحقهم على وفق ما علمنا‏.‏

روي أن أزواجه عليه السلام لما تغايرن وابتغين زيادة النفقة، فهجرهن شهراً، ونزل التخيير، فأشفقن أن يطلقن فقلن‏:‏ يا رسول الله، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت‏.‏ وتقدم الكلام في معنى ترجي في قوله‏:‏ ‏{‏وآخرون مرجون لأمر الله‏}‏ في سورة براءة‏.‏ والظاهر أن الضمير في ‏{‏منهن‏}‏ عائد على أزواجه عليه السلام، والإرجاء‏:‏ الإيواء‏.‏ قال ابن عباس، والحسن‏:‏ في طلاق ممن تشاء ممن حصل في عصمتك، وإمساك من تشاء‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ في تزوج من تشاء من الواهبات، وتأخير من تشاء‏.‏ وقال مجاهد، وقتادة، والضحاك‏:‏ وتقرر من شئت في القسمة لها، وتؤخر عنك من شئت، وتقلل لمن شئت، وتكثر لمن شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن أن هذا حكم الله وقضاؤه، زالت الإحنة والغيرة عنهن ورضين وقرت أعينهن، وهذا مناسب لما روي في سبب هذه الآية المتقدم ذكره‏.‏

‏{‏ومن ابتغيت ممن عزلت‏}‏‏:‏ أي ومن طلبتها من المعزولات ومن المفردات، ‏{‏فلا جناح عليك‏}‏ في ردها وإيوائها إليك‏.‏ ويجوز أن يكون ذلك توكيداً لما قبله، أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن عزلت سواء، لا جناح عليك‏.‏ كما تقول‏:‏ من لقيك ممن لم يلقك، جميعهم لك شاكر، تريد من لقيك ومن لم يلقك، وفي هذا الوجه حذف المعطوف، وغرابة في الدلالة على هذا المعنى بهذا التركيب، والراجح القول الأول‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المعنى‏:‏ من مات من نسائك اللواتي عندك، أو خليت سبيلها، فلا جناح عليك أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك، فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بمعنى تترك مضاجع من تشاء منهن وتضاجع من تشاء، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت، أو تترك من تشاء من أمتك وتتزوج من شئت‏.‏ وعن الحسن‏:‏ كان النبي، صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض، لأنه إما أن يطلق، وأما أن يمسك‏.‏ فإذا أمسك ضاجع، أو ترك وقسم، أو لم يقسم‏.‏ وإذا طلق وعزل، فإما أن يخلي المعزولة لا يتبعها، أو يتبعها‏.‏ وروي أنه أرجأ منهن‏:‏ سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة‏.‏ فكان يقسم لهن ما شاء كما شاء، وكانت ممن أوى إليه‏:‏ عائشة، وحفصة، وأم سملة، وزينب، أرجأ خمساً وأوى أربعاً‏.‏ وروي أنه كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة، فإنها وهبت نفسها لعائشة وقالت‏:‏ لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك‏.‏ انتهى‏.‏ ذلك التفويض إلى مشيئتك أدنى إلى قرة عيونهن وانتفاء حزنهن ووجود رضاهن، إذا علمت أن ذلك التفويض من عند الله، فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أن تقر أعينهن‏}‏‏:‏ مبنياً للفاعل من قرت العين؛ وابن محيصن‏:‏ يقر من أقر أعينهن بالنصب، وفاعل تقر ضميرالخطاب، أي أنت‏.‏

وقرئ‏:‏ تقر مبنياً للمفعول، وأعينهن بالرفع‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏كلهن‏}‏ بالرفع، تأكيداً النون ‏{‏يرضين‏}‏؛ وأبو إياس حوبة بن عائد‏:‏ بالنصب تأكيداً لضمير النصب في ‏{‏آتيتهن‏}‏‏.‏ ‏{‏والله يعلم ما في قلوبكم‏}‏‏:‏ عام‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والإشارة به ههنا إلى ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص، ويدخل في المعنى المؤمنون‏.‏ وقال الزمخشري، وعبيدة‏:‏ من لم يرض منهن بما يريد الله من ذلك، وفوض إلى مشيئة رسوله، وبعث على تواطؤ قلوبهن، والتصافي بينهن، والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيه طيب نفسه‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏وكان الله عليماً‏}‏ بما انطوت عليه القلوب، ‏{‏حليماً‏}‏‏:‏ يصفح عما يغلب على القلب من المسؤول، إذ هي مما لا يملك غالباً‏.‏ واتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام، كان يعدل بينهن في القسمة حتى مات، ولم يستعمل شيئاً مما أبيح له، ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل، غير ما جرى لسودة مما ذكرناه‏.‏

‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏‏:‏ الظاهر أنها محكمة، وهو قول أبيّ بن كعب وجماعة، منهم الحسن وابن سيرين، واختاره الطبري‏.‏ ومن بعد المحذوف منه مختلف فيه، فقال أبيّ، وعكرمة، والضحاك‏:‏ ومن بعد اللواتي أحللنا لك في قوله‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏‏.‏ فعلى هذا المعنى، لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص عليهن أنهن يحللن لك من الأصناف الأربعة‏:‏ لا أعرابية، ولا عربية، ولا كتابية، ولا أمة بنكاح‏.‏ وقال ابن عباس، وقتادة‏:‏ من بعد، لأن التسع نصاب رسول الله من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمته منهن‏.‏ قال‏:‏ لما خيرن فاخترن الله ورسوله، جازاهن الله أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء‏.‏ وقال مجاهد، وابن جبير‏:‏ وروي عن عكرمة‏:‏ من بعد، أي من بعد إباحة النساء على العموم، ولا تحل لك النساء غير المسلمات من يهودية ولا نصرانية‏.‏ وكذلك‏:‏ ‏{‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏‏:‏ أي بالمسلمات من أزواج يهوديات ونصرانيات‏.‏ وقيل‏:‏ في قوله ‏{‏ولا أن تبدل‏}‏، هو من البدل الذي كان في الجاهلية‏.‏ كان يقول الرجل‏:‏ بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي، فينزل كل واحد منهما عن امرأته للآخر‏.‏ قال معناه ابن زيد، وأنه كان في الجاهلية، وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية، وما فعلت العرب قط هذا‏.‏ ‏"‏ وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين دخل عليه بغير استئذان، وعنده عائشة‏.‏ من هذه الحميراء‏؟‏ فقال‏:‏ «عائشة»، فقال عيينة‏:‏ يا رسول الله، إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالاً‏:‏ ونسباً، فليس بتبديل، ولا أراد ذلك، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية ‏"‏

ومن في ‏{‏من أزواج‏}‏ زائدة لتأكيد النفي، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم‏.‏ وقيل‏:‏ الآية منسوخة، واختلف في الناسخ فقيل‏:‏ بالسنة‏.‏ قال عائشة‏:‏ ما مات حتى حل له النساء‏.‏ وروي ذلك عن أم سلمة، وهو قول علي وابن عباس والضحاك، وقيل بالقرآن، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ترجي من تشاء منهن‏}‏ الآية‏.‏ قال هبة الله الضرير‏:‏ في الناسخ والمنسوخ له، وقال‏:‏ ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وكلامه يضعف من جهات‏.‏ انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ قوله ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ الآية، فترتيب النزول ليس على ترتيب كتابة المصحف‏.‏ وقد روي عن ابن عباس القولان‏:‏ إنها محكمة، وإنها منسوخة‏.‏

‏{‏ولو أعجبك حسنهن‏}‏، قيل‏:‏ منهن أسماء بنت عميس الخثعمية، امرأة جعفر بن أبي طالب‏.‏ والجملة، قال الزمخشري، في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في ‏{‏تبدل‏}‏، لا من المفعول الذي هو ‏{‏من أزواج‏}‏، لأنه موغل في التنكير، وتقديره‏:‏ مفروضاً إعجابك لهن؛ وتقدم لنا في مثل هذا التركيب أنه معطوف على حال محذوفة، أي ‏{‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ على كل حال، ولو في هذه الحال التي تقتضي التبدل، وهي حالة الإعجاب بالحسن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي هذا اللفظ ‏{‏أعجبك حسنهن‏}‏، دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها‏.‏ انتهى‏.‏ وقد جاء ذلك في السنة من حديث المغيرة بن شعبة، وحديث محمد بن مسلمة‏.‏

‏{‏إلا ما ملكت يمينك‏}‏‏:‏ أي فإنه يحل لك‏.‏ وأما إن كانت موصولة واقعة على الجنس، فهو استثناء من الجنس، يختار فيه الرفع على البدل من النساء‏.‏ ويجوز النصب على الاستثناء، وإن كانت مصدرية، ففي موضع نصب، لأنه استثناء من غير جنس الأول، قاله ابن عطية، وليس بجيد، لأنه قال‏:‏ والتقدير‏:‏ إلا ملك اليمين، وملك بمعنى‏:‏ مملوك، فإذا كان بمعنى مملوك صار من حملة النساء لأنه لم يرد حقيقة المصدر، فيكون الرفع هو أرجح، ولأنه قال‏:‏ وهو في موضع نصب، ولا يتحتم أن يكون في موضع نصب‏.‏ ولو فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة، بل الحجاز تنصب وتميم تبدل، لأنه مستثنى، يمكن توجه العامل عليه، وإنما يكون النصب متحتماً حيث كان المستثنى لا يمكن توجه العامل عليه نحو‏:‏ ما زاد المال إلا النقص، فلا يمكن توجه الزيادة على النقص، ولأنه قال‏:‏ استثناء من غير الجنس‏.‏ وقال مالك‏:‏ بمعنى مملوك فناقض‏.‏ ‏{‏وكان الله على كل شيء رقيباً‏}‏‏:‏ أي راقباً، أو مراقباً، ومعناه‏:‏ حافظ وشاهد ومطلع، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله وحرامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 58‏]‏

‏{‏لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

في الصحيحين، أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، فجاء فدخل، فإذا القوم جلوس، فرجع وأنهم قاموا فانطلقوا، وجئت فأخبرته أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل عليه هذه الآية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان ناس يتحينون طعامه، عليه الصلاة والسلام، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون، وكان يتأذى بهم، فنزلت‏.‏ وأما سبب الحجاب، فعمر قال‏:‏ يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البار والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ طعم معه بعض أصحابه، ومعهم عائشة، فمست يد رجل منهم يد عائشة، فكره ذلك عليه السلام، فنزلت آية الحجاب‏.‏

ولما كان نزول الآية في شيء خاص وقع للصحابة، لم يدل ذلك على أنه لا يجوز دخول بيوت النبي إلا إن كان عن إذن ‏{‏إلى طعام غير ناظرين إناه‏}‏، لا يجوز دخول بيوته، عليه السلام، إلا بإذن، سواء كان لطعام أم لغيره‏.‏ وأيضاً فإذا كان النهي إلا بإذن إلى طعام، وهو ما تمس الحاجة إليه لجهة الأولى‏.‏ و‏{‏بيوت‏}‏‏:‏ جمع، وإن كانت الواقعة في بيت واحد خاص يعم جميع بيوته‏.‏ و‏{‏إلا أن يؤذن‏}‏، قال الزمخشري‏:‏ ‏{‏إلا أن يؤذن‏}‏ في معنى الظرف تقديره‏:‏ وقت أن يؤذن لكم، و‏{‏غير ناظرين‏}‏‏:‏ حال من ‏{‏لا تدخلوا‏}‏، أوقع الاستثناء على الوقت والحال معاً، كأنه قيل‏:‏ لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه‏.‏ انتهى‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يؤذن‏}‏ في معنى الظرف وتقديره‏:‏ وقت أن يؤذن لكم، وأنه أوقع الاستثناء على الوقت فليس بصحيح، وقد نصوا على أن أنْ المصدرية لا تكون في معنى الظرف‏.‏ تقول‏:‏ أجيئك صياح الديك وقدوم الحاج، ولا يجوز‏:‏ أجيئك أن يصيح الديك ولا أن يقدم الحاج‏.‏ وأما أن الاستثناء وقع على الوقت والحال معاً، فلا يجوز على مذهب الجمهور، ولا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى، أو المستثنى منه، أو صفة المستثنى منه‏:‏ وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال، أجازا‏:‏ ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا، فيجوز ما قاله الزمخشري في الحال‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يؤذن لكم‏}‏، فلا يتعين أن يكون ظرفاً، لأنه يكون التقدير‏:‏ إلا بأن يؤذن لكم، فتكون الباء للسببية، كقوله‏:‏ ‏{‏فأخرجنا به من كل الثمرات‏}‏ أو للحال، أي مصحوبين بالإذن‏.‏ وأما ‏{‏غير ناظرين‏}‏، كما قرر في قوله‏:‏ ‏{‏بالبينات والزبر‏}‏ أرسلناهم بالبينات والزبر، دل عليه ‏{‏لا تدخلوا‏}‏، كما دل عليه أرسلناهم قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏غير ناظرين‏}‏ فحال، والعامل فيه محذوف تقديره‏:‏ ادخلوا بالإذن غير ناظرين‏.‏ كما قرر في قوله‏:‏ ‏{‏بالبينات والزبر‏}‏ أي غير منتظرين وقته، أي وقت استوائه وتهيئته‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏غير‏}‏ بالنصب على الحال؛ وابن أبي عبلة‏:‏ بالكسر، صفة لطعام‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وليس بالوجه، لأنه جرى على غير من هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز من إلى اللفظ، فيقال‏:‏ غير ناظرين إناه أنتم، كقوله‏:‏ هند زيد ضاربته هي‏.‏ انتهى‏.‏ وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيين إذا لم يلبس وأنى الطعام إدراكه، يقال‏:‏ أنى الطعام أنى، كقوله‏:‏ قلاه قلى، وقيل‏:‏ وقته، أي غير ناظرين ساعة أكله‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ إناه مفرداً؛ والأعمش‏:‏ إناءه، بمدة بعد النون‏.‏ ورتب تعالى الدخول على أن يدعوا، فلا يقدمون عليه الدخول حين يدعوا، ثم أمر بالاستثناء إذا طعموا‏.‏ ‏{‏ولا مستأنسين لحديث‏}‏‏:‏ معطوف على ‏{‏ناظرين‏}‏، فهو مجرور أو معطوف على ‏{‏غير‏}‏، فهو منصوب، أي لا تدخلوها لا ناظرين ولا مستأنسين‏.‏ وقيل‏:‏ ثم حال محذوفة، أي لا تدخلوها أجمعين ولا مستأنسين، فيعطف عليه‏.‏ واللام في ‏{‏لحديث‏}‏ إما لام العلة، نهوا أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه، به أو اللام المقوية لطلب اسم الفاعل للمفعول، فنهوا أن يستأنسوا حديث أهل البيت‏.‏ واستئناسه‏:‏ تسمعه وتوحشه‏.‏

‏{‏إن ذلكم‏}‏‏:‏ أي انتظاركم واستئناسكم، ‏{‏يؤذي النبي فيستحيي منكم‏}‏‏:‏ أي من إنهاضكم من البيوت، أو من إخراجكم منها بدليل قوله‏:‏ ‏{‏والله لا يستحيي من الحق‏}‏‏:‏ يعني أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه‏.‏ ولما كان الحياء مما يمنع الحي من بعض الأفعال، قيل‏:‏ ‏{‏لا يستحيي من الحق‏}‏ بمعنى‏:‏ لا يمتنع، وجاء ذلك على سبيل المقابلة لقوله‏:‏ ‏{‏فيستحيي منكم‏}‏‏.‏ وعن عائشة، وابن عباس‏:‏ حسبك في الثقلاء، أن الله لم يحتملهم‏.‏ وقرئت هذه الآية بين يدي إسماعيل بن أبي حكيم فقال‏:‏ هنا أدب أدب الله به الثقلاء‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ فيستحيي بكسر الحاء، مضارع استحا، وهي لغة بني تميم‏.‏ واختلفوا ما المحذوف، أعين الكلمة أم لامها‏؟‏ فإن كان العين فوزنها يستفل، وإن كان اللام فوزنها يستفع، والترجيح مذكور في النحو‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بياءين وسكون الحاء، والمتاع عام في ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏، أي السؤال من وراء الحجاب، ‏{‏أطهر‏}‏‏:‏ يريد من الخواطر التي تخطر للرجال في أمر النساء، والنساء في أمر الرجال، إذ الرؤية سبب التعلق والفتنة‏.‏ ألا ترى إلى قول الشاعر‏:‏

والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين العين موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ساء مهجته *** لا مرحباً بانتفاع جاء بالضرر

وذكر أن بعضهم قال‏:‏ أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب‏؟‏ لئن مات محمد لأتزوجن فلانة‏.‏

وقال ابن عباس وبعض الصحابة‏:‏ وفلانة عائشة‏.‏ وحكى مكي عن معمر أنه قال‏:‏ هو طلحة بن عبيد الله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا عندى لا يصح على طلحة فإن الله عصمه منه‏.‏ وفي التحرير أنه طلحة، فنزلت‏:‏ ‏{‏ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً‏}‏، فتاب وأعتق رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشياً‏.‏

وروي أن بعض المنافقين قال‏:‏ حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم سلمة بعده، أي بعد سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة‏:‏ ما بال محمد يتزوج نساءنا‏؟‏ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه‏.‏ ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب ثم رجعت، تزوج عكرمة ابن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تزوجها ولم يبن بها‏.‏ فصعب ذلك على أبي بكر وقلق، فقال له عمر‏:‏ مهلاً يا خليفة رسول الله، إنها ليست من نسائه، إنه لم يبن بها، ولا أرخى عليها حجاباً، وقد أبانتها منه ردتها مع قومها‏.‏ فسكن أبو بكر، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم عنها، مراعاة للحجاب، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة، ومنعه عمر‏.‏ وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏‏:‏ عام في كل ما يتأذى به، ‏{‏ولا أن تنكحوا‏}‏‏:‏ خاص بعد عام، لأن ذلك يكون أعظم الأذى، فحرم الله نكاح أزواجه بعد وفاته‏.‏ ‏{‏إن ذلكم‏}‏‏:‏ أي إذايته ونكاح أزواجه، ‏{‏كان عند الله عظيماً‏}‏‏:‏ وهذا من أعلام تعظيم الله لرسوله، وإيجابه حرمته حياً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه، فإن نحو هذا مما يحدث به المرء نفسه‏.‏ ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت، لئلا تنكح من بعده، وخصوصاً العرب، فإنهم أشد الناس غيرة‏.‏ وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قبَّل جارية كان يحبها في حكاية قال‏:‏ تصوراً لما عسى أن يتفق من بقائها بعده، وحصولها تحت يد غيره‏.‏ انتهى‏.‏ فقال لما عسى، فجعل عسى صلة للموصول، وقد كثر منه هذا وهو لا يجوز‏.‏ وعن بعض الفقهاء، أن الزوج الثاني في هدير الثلث يجري مجرى العقوبة، فعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملاً يلاحظ ذلك‏.‏ ‏{‏إن تبدوا شيئاً أو تخفوه‏}‏‏:‏ وعيد لما تقدم التعرض به في الآية ممن أشير إليه بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم أطهر‏}‏، ومن أشير إليه‏:‏ ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا‏}‏، فقيل‏:‏ ‏{‏إن تبدوا شيئاً‏}‏ على ألسنتكم، ‏{‏أو تخفوه‏}‏ في صدوركم، مما يقع عليه العقاب، فالله يعلمه، فيجازي عليه‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏شيئاً‏}‏، ليدخل فيه ما يؤذيه، عليه السلام، من نكاحهن وغيره، وهو صالح لكل باد وخاف‏.‏

وروي أنه لما نزلت آية الحجاب قال‏:‏ الآباء والأبناء والأقارب، أو نحن يا رسول الله أيضاً، نكلمهن من وراء حجاب، فنزلت‏:‏ ‏{‏لا جناح عليهن‏}‏‏:‏ أي لا إثم عليهن‏.‏ قال قتادة‏:‏ في ترك الحجاب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ في وضع الجلباب وإبداء الزينة‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ لم يذكر العم والخال، وإن كانا من المحارم، لئلا يصفا للأبناء، وليسوا من المحارم‏.‏ وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها، وقيل‏:‏ لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد جاءت تسمية العم أباً‏.‏ وذكر هنا بعض المحارم، والجميع في سورة النور‏.‏ ودخل في‏:‏ ‏{‏ولا نسائهن‏}‏، الأمهات والأخوات وسائر القربات، ومن يتصل بهن من المتطرفات لهن‏.‏ وقال ابن زيد وغيره‏:‏ أراد جميع النساء المؤمنات، وتخصيص الإضافة إنما هي في الإيمان‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من أهل دينهن، وهو كقول ابن زيد‏.‏ والظاهر من قوله‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏، دخول العبيد والإماء دون ما ملك غيرهن‏.‏ وقيل‏:‏ مخصوص بالإماء، وقيل‏:‏ جميع العبيد ممن في ملكهن أو ملك غيرهن‏.‏ وقال النخعي‏:‏ يباح لعبدها النظر إلى ما يواريه الدرع من ظاهر بدنها، وإذا كان للعبد المكاتب ما يؤدي، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الحجاب دونه، وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان‏.‏

‏{‏واتقين الله‏}‏‏:‏ أمر بالتقوى وخروج من الغيبة إلى الخطاب، أي واتقين الله فيما أمرتن به من الاحتجاب، وأنزل الله فيه الوحي من الاستتار، وكأن في الكلام جملة حذفت تقديره‏:‏ اقتصرن على هذا، واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره‏.‏ ثم توعد بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله كان على كل شيء شهيداً‏}‏، من السر والعلن، وظاهر الحجاب وباطنه، وغير ذلك‏.‏ ‏{‏شهيداً‏}‏‏:‏ لا تتفاوت الأحوال في علمه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وملائكته‏}‏ نصباً؛ وابن عباس، وعبد الوارث عن أبي عمرو‏:‏ رفعاً‏.‏ فعند الكوفيين غير الفراء هو عطف على موضع اسم إن، والفراء يشترط خفاء إعراب اسم إن‏.‏ وعند البصريين هو على حذف الخبر، أي يصلي على النبي، وملائكته يصلون، وتقدم الكلام على كيفية اجتماع الصلاتين في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏}‏‏.‏ فالضمير في ‏{‏يصلون‏}‏ عائد على ‏{‏الله وملائكته‏}‏، وقيل‏:‏ في الكلام حذف، أي يصلي وملائكته يصلون، فراراً من اشتراك الضمير، والظاهر وجوب الصلاة والسلام عليه، وقيل‏:‏ سنة‏.‏ إذا كانت الصلاة واجبة فقيل‏:‏ كلما جرى ذكره قيل في كل مجلس مرة‏.‏ وقد ورد في الحديث في الصلاة عليه، فضائل كثيرة‏.‏

وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال قوم من الصحابة‏:‏ السلام عليك يا رسول الله عرفناه، فكيف نصلي عليك قال‏:‏ «قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وارحم محمداً وآل محمد، كما رحمت وباركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد»

وفي بعض الروايات زيادة ونقص‏.‏ ‏{‏إن الذين يؤذون الله ورسوله‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت حيي زوجاً‏.‏ انتهى‏.‏ والطعن في تأمير أسامة بن زيد‏:‏ أن إيذاءه عليه السلام، وإيذاء الله والرسول فعل ما نهى الله ورسوله عنه من الكفر والمعاصي، وإنكار النبوة ومخالفة الشرع، وما يصيبون به الرسول من أنواع الأذى‏.‏ ولا يتصور الأذى حقيقة في حق الله، فقيل‏:‏ هو على حذف مضاف، أي يؤذون أولياء الله، وقيل‏:‏ المراد يؤذون رسول الله، وقيل‏:‏ في أذى الله، هو قول اليهود والنصارى والمشركين‏:‏ ‏{‏يد الله مغلولة‏}‏ و‏{‏ثالث ثلاثة‏}‏ و‏{‏المسيح ابن الله‏}‏ و‏{‏الملائكة بنات الله‏}‏، و‏{‏الأصنام شركاؤه‏}‏‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ فعل أصحاب التصاوير الذين يزورون خلقاً مثل خلق الله، وقيل‏:‏ في أذى رسول الله قولهم‏:‏ ساحر شاعر كاهن مجنون، وقيل‏:‏ كسر رباعيته وشج وجهه يوم أُحد‏.‏

وأطلق إيذاء الله ورسوله على إيذاء المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏بغير ما اكتسبوا‏}‏، لأن إيذاءهما لا يكون إلا بغير حق، بخلاف إيذاء المؤمن، فقد يكون بحق‏.‏ ومعنى ‏{‏بغير ما اكتسبوا‏}‏‏:‏ بغير جناية واستحقاق أذى‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في ناس من المنافقين يؤذون علياً، كرم الله وجهه، ويسمعونه؛ وقيل‏:‏ في الذين أفكوا على عائشة‏.‏ وقال الضحاك، والسدي، والكلبي‏:‏ في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات؛ وقيل‏:‏ في عمر، رأى من الريبة على جارية من جواري الأنصار ما كره، فضربها، فأذوي أهل عمر باللسان، فنزلت‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وروي أن عمر قال يوماً لأبيّ‏:‏ قرأت البارحة ‏{‏والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات‏}‏ ففزعت منها، وإني لأضربهم وأنهرهم، فقال له‏:‏ لست منهم، إنما أنت معلم ومقوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون‏:‏ حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن‏.‏ وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن، فنزلت‏.‏

قيل‏:‏ والجلابيب‏:‏ الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل، وقال ابن جبير‏:‏ المقانع؛ وقيل‏:‏ الملاحف، وقيل‏:‏ الجلباب‏:‏ كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وقيل‏:‏ كل ما تستتر به من كساء أو غيره‏.‏ قال أبو زيد‏:‏

تجلببت من سواد الليل جلباباً *** وقيل‏:‏ الجلباب أكبر من الخمار‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ تلقي جانب الجلباب على غيرها ولا يرى‏.‏ وقال أبو عبيدة السلماني، حين سئل عن ذلك فقال‏:‏ أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها‏.‏ وقال السدي‏:‏ تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين‏.‏ انتهى‏.‏ وكذا عادة بلاد الأندلس، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن، أراد بالإنضمام معنى‏:‏ الإدناء‏.‏ وقال ابن عباس، وقتادة‏:‏ وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏ونساء المؤمنين‏}‏ يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح‏.‏ ومن في‏:‏ ‏{‏من جلابيبهن‏}‏ للتبعيض، و‏{‏عليهن‏}‏‏:‏ شامل لجميع أجسادهن، أو ‏{‏عليهن‏}‏‏:‏ على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه‏.‏ ‏{‏ذلك أدنى أن يعرفن‏}‏‏:‏ لتسترهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن؛ لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام، لم يقدم عليها، بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها‏.‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏‏:‏ تأنيس للنساء في ترك الاستتار قبل أن يؤمر بذلك‏.‏

ولما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين، ذكر حال المسر الذي يؤذي الله ورسوله، ويظهر الحق ويضمر النفاق‏.‏ ولما كان المؤذون ثلاثة، باعتبار إذايتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، كان المشركون ثلاثة‏:‏ منافق، ومن في قلبه مرض، ومرجف‏.‏ فالمنافق يؤذي سراً، والثاني يؤذي المؤمن باتباع نسائه، والثالث يرجف بالرسول، يقول‏:‏ غلب، سيخرج من المدينة، سيؤخذ، هزمت سراياه‏.‏ وظاهر العطف التغاير بالشخص، فيكون المعنى‏:‏ لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يقولون من أخبار السوء ويشيعونه‏.‏ ويجوز أن يكون التغاير بالوصف، فيكون واحداً بالشخص ثلاثة بالوصف‏.‏ كما جاء‏:‏ أن المسلمين والمسلمات، فذكر أوصافاً عشرة، والموصوف بها واحد، ونص على هذين الوصفين من المنافقين لشدة ضررهما على المؤمنين‏.‏

قال عكرمة‏:‏ ‏{‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏، هو العزل وحب الزنا، ومنه فيطمع الذي في قلبه مرض‏.‏ وقال السدي‏:‏ المرض‏:‏ النفاق، ومن في قلوبهم مرض‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هم الذين آذوا عمر‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ من آذى المسلمين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏المرجفون‏}‏‏:‏ ملتمسو الفتن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الذين يؤذون قلوب المؤمنين بإيهام القتل والهزيمة‏.‏ ‏{‏لنغرينك بهم‏}‏‏:‏ أي لنسلطنك عليهم، قاله ابن عباس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لنحرسنك بهم‏.‏

‏{‏ثم لا يجاورونك فيها‏}‏‏:‏ أي في المدينة، و‏{‏ثم لا يجاورونك‏}‏ معطوف على ‏{‏لنغرينك‏}‏، ولم يكن العطف بالفاء، لأنه لم يقصد أنه متسبب عن الإغراء، بل كونه جواباً للقسم أبلغ‏.‏ وكان العطف بثم، لأن الجلاء عن الوطن كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا، به فتراخت حالة الجلاء عن حالة الإغراء‏.‏ ‏{‏إلا قليلاً‏}‏‏:‏ أي جواراً قليلاً، أو زماناً قليلاً، أو عدداً قليلاً، وهذا الأخير استثناء من المنطوق، وهو ضمير الرفع في ‏{‏يجاورونك‏}‏، أو ينتصب قليلاً على الحال، أي إلا قليلين، والأول استثناء من المصدر الدال عليه ‏{‏يجاورونك‏}‏، والثاني من الزمان الدال عليه ‏{‏يجاورونك‏}‏، والمعنى‏:‏ أنهم يضطرون إلى طلب الجلاء عن المدينة خوف القتل‏.‏ وانتصب ‏{‏ملعونين‏}‏ على الذم، قاله الطبري؛ وأجاز ابن عطية أن يكون بدلاً من ‏{‏قليلاً‏}‏، قال‏:‏ هو من إقلاء الذي قدرناه؛ وأجاز هو أيضاً أن يكون حالاً من الضمير في ‏{‏يجاورونك‏}‏، قال‏:‏ كأنه قال‏:‏ ينتفون من المدينة معلونين، فلا يقدر ‏{‏لا يجاورونك‏}‏، فقدر ينتفون حسن هذا‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الزمخشري، والحوفي، وتبعهما أبو البقاء‏:‏ يجوز أن يكون حالاً من الضمير في ‏{‏لا يجاورونك‏}‏، كما قال ابن عطية‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهذا نصه ملعونين، نصب على الشتم أو الحال، أي لا يجاورونك، إلا ملعونين‏.‏ دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً، كما مر في قول‏:‏ ‏{‏إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه‏}‏، ولا يصح أن ينتصب من أخذوا، لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها‏.‏ انتهى‏.‏ وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعد ما استثنى بإلا، فيكون الاستثناء منصباً عليهما، وأن جمهور البصريين منعوا من ذلك‏.‏ وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلاً، فالبدل بالمشتق قليل‏.‏ وأما قول الزمخشري‏:‏ لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها، فليس هذا مجمعاً عليه، لأن ما بعد كلمة الشرط شيئان‏:‏ فعل الشرط والجواب‏.‏ فأما فعل الشرط، فأجاز الكسائي تقديم معموله على الكلمة، أجاز زيد أن يضرب اضربه، وأما الجواب فقد أجاز أيضاً تقديم معموله عليه نحو‏:‏ إن يقم زيد عمراً يضرب‏.‏ وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال‏:‏ المعنى‏:‏ ‏{‏أينما ثقفوا‏}‏‏:‏ أخذوا ملعونين، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل، أي إلا قليلين ملعونين، ويكون قليلاً مستثنى من الواو في لا يجاورونك، والجملة الشرطية صفة أيضاً، أي مقهورين مغلوباً عليهم‏.‏

ومعنى ‏{‏ثقفوا‏}‏‏:‏ حصروا وظفر بهم، ومعنى ‏{‏أخذوا‏}‏‏:‏ أسروا، والأخيذ‏:‏ الأسير‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏قتلوا‏}‏، بتشديد التاء؛ وفرقة‏:‏ بتخفيفها، فيكون ‏{‏تقتيلاً‏}‏ مصدراً على غير قياس المصدر‏.‏

والظاهر أن المنافقين انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول والمؤمنين، وتستر جميعهم، وكفوا خوفاً من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه، وهو الإغراء والجلاء والأخذ والقتل‏.‏ وقيل‏:‏ لم يمتثلوا للانتهاء جملة، ولا نفذ عليهم الوعيد كاملاً‏.‏ ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد، ونهيه عن الصلاة عليهم، وما نزل فيهم في سورة براءة‏؟‏ وأبعد من ذهب إلى أنه لم ينته هؤلاء الأصناف، ولم ينفذ الله الوعيد عليهم، ففيه دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة، ويكون هذا الوعيد مفروضاً ومشروطاً بالمشيئة‏.‏

‏{‏سنة الله‏}‏‏:‏ مصدر مؤكد، أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ظفر بهم‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ كما قتل أهل بدر وأسروا، فالذين خلوا يشمل أتباع الأنبياء الذين نافقوا، ومن قتل يوم بدر‏.‏ ‏{‏يسألك الناس‏}‏‏:‏ أي المشركون، عن وقت قيام الساعة، استعجالاً على سبيل الهزء، واليهود على سبيل الامتحان، إذ كانت معمى وقتها في التوراة، فنزلت الآية بأن يرد العلم إلى الله، إذ لم يطلع عليها ملكاً ولا نبياً‏.‏ ولما ذكر حالهم في الدنيا أنهم ملعونون مهانون مقتولون، بيّن حالهم في الآخرة‏.‏ ‏{‏وما يدريك‏}‏‏:‏ ما استفهام في موضع رفع بالابتداء، أي‏:‏ وأي شيء يدريك بها‏؟‏ ومعناه النفي، أي ما يدريك بها أحد‏.‏ ‏{‏لعل الساعة تكون قريباً‏}‏‏:‏ بين قرب الساعة، وفي ذلك تسلية للممتحن، وتهديد للمستعجل‏.‏ وانتصب قريباً على الظرف، أي في زمان قريب، إذ استعماله ظرفاً كثير، ويستعمل أيضاً غير ظرف، تقول‏:‏ إن قريباً منك زيد، فجاز أن يكون التقدير شيئاً قريباً، أو تكون الساعة بمعنى الوقت، فذكر قريباً على المعنى‏.‏ أو يكون التقدير‏:‏ لعل قيام الساعة، فلوحظ الساعة في تكون فأنث، ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قريباً فذكر‏.‏

‏{‏يوم تقلب وجوههم في النار‏}‏‏:‏ يجوز أن ينتصب يوم بقوله‏:‏ ‏{‏لا يجدون‏}‏، ويكون يقولون استئناف إخبار عنهم، أو تم الكلام عند قولهم‏:‏ ‏{‏ولا نصيراً‏}‏‏.‏ وينتصب يوم بقوله‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏، أو بمحذوف، أي اذكر ويقولون حال‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تقلب مبنياً للمفعول؛ والحسن، وعيسى، وأبو جعفر الرواسي‏:‏ بفتح التاء، أي تتقلب؛ وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة‏.‏ وقال ابن خالويه عن أبي حيوة‏:‏ نقلب بالنون، وجوههم بالنصب‏.‏ وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة أيضاً وخارجة‏.‏ زاد صاحب اللوامح أنها قراءة عيسى البصري‏.‏ وقرأ عيسى الكوفي كذلك، إلا أن بدل النون تاء، وفاعل تقلب ضمير يعود على ‏{‏سعيراً‏}‏، وعلى جهنم أسند إليهما اتساعاً‏.‏ وقراءة ابن أبي عبلة‏:‏ تتقلب بتاءين، وتقليب الوجوه في النار‏:‏ تحركها في الجهات، أو تغيرها عن هيئاتها، أو إلقاؤها في النار منكوسة‏.‏

والظاهر هو الأول، والوجه أشرف ما في الإنسان، فإذا قلب في النار كان تقليب ما سواه أولى‏.‏ وعبر بالوجه عن الجملة، وتمنيهم حيث لا ينفع، وتشكيهم من كبرائهم لا يجدي‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سادتنا‏}‏، جمعاً على وزن فعلات، أصله سودة، وهو شاذ في جمع فيعل، فإن جعلت جمع سائد قرب من القياس‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، والسلمي، وابن عامر، والعامة في الجامع بالبصرة‏:‏ ساداتنا على الجمع بالألف والتاء، وهو لا ينقاس، كسوقات ومواليات بني هاشم وسادتهم، رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ سادتنا‏:‏ رؤساؤنا‏.‏ وقال طاوس‏:‏ أشرافنا؛ وقال أبو أسامة‏:‏ أمراؤنا، وقال الشاعر‏:‏

تسلسل قوم سادة ثم زادة *** يبدون أهل الجمع يوم المحصب

ويقال‏:‏ ضل السبيل، وضل عن السبيل‏.‏ فإذا دخلت همزة النقل تعدى لاثنين؛ وتقدم الكلام على إثبات الألف في الرسولاً والسبيلا في قوله‏:‏ ‏{‏وتظنون بالله الظنونا‏}‏‏.‏ ولما لم يجد تمنيهم الإيمان بطاعة الله ورسوله، ولا قام لهم عذر في تشكيهم ممن أضلهم، دعوا على ساداتهم‏.‏ ‏{‏ربنا آتهم ضعفين من العذاب‏}‏‏:‏ ضعفاً على ضلالهم في أنفسهم، وضعفاً على إضلال من أضلوا‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ كثيراً بالثاء المثلثة‏.‏ وقرأ حذيفة بن اليمان، وابن عامر، وعاصم، والأعرج‏:‏ بخلاف عنه بالباء‏.‏ ‏{‏كالذين آذوا موسى‏}‏، قيل‏:‏ نزلت في شأن زيد وزينب، وما سمع فيه من قاله بعض الناس‏.‏ وقيل‏:‏ المراد حديث الإفك على أنه ما أوذي نبي مثل ما أوذيت‏.‏ وفي حديث الرجل الذي قال لقسم قسمه رسول الله‏:‏ إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فغضب وقال‏:‏ رحم الله أخي موسى، لقد أوذي أكثر من هذا فصبر‏.‏ وإذاية موسى قولهم‏:‏ إنه أبرص وآدر، وأنه حسد أخاه هارون وقتله‏.‏ أو حديث المومسة المستأجرة لأن تقول‏:‏ إن موسى زنى بها، أو ما نسبوه إليه من السحر والجنون، أقوال‏.‏

‏{‏مما قالوا‏}‏‏:‏ أي من وصم ما قالوا، وما موصولة أو مصدرية‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وكان عند الله‏}‏‏:‏ الظرف معمول لوجيهاً، أي ذا وجه ومنزلة عند الله تعالى، تميط عنه الأذى وتدفع التهم‏.‏ وقرأ عبد الله، والأعمش، وأبو حيوة‏:‏ عبد من العبودية، لله جر بلام الجر، وعبداً خبر كان، ووجيهاً صفة له‏.‏ قال ابن خالويه‏:‏ صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ‏:‏ وكان عبد الله، على قراءة ابن مسعود‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ ‏{‏وجيهاً‏}‏‏:‏ مقبولاً‏.‏ وقال الحسن‏:‏ مستجاب الدعوة، ما سأل شيئاً إلا أعطي، إلا الرؤية في الدنيا‏.‏ وقال قطرب‏:‏ رفيع القدر؛ وقيل‏:‏ وجاهته أنه كلمه ولقبه كليم الله‏.‏ والسديد‏:‏ تقدم شرحه في أوائل النساء‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هنا صواباً‏.‏ وقال مقاتل، وقتادة‏:‏ سديداً في شأن زيد وزينب والرسول‏.‏

وقال ابن عباس، وعكرمة أيضاً‏:‏ لا إله إلا الله، وقيل‏:‏ ما يوافق ظاهره باطنه؛ وقيل‏:‏ ما هو إصلاح من تسديد السهم ليصيب الغرض؛ وقيل‏:‏ السديد يعم الخيرات‏.‏ ورتب على القول السديد‏:‏ صلاح الأعمال وغفران الذنوب‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهذه الآية مقررة للتي قبلها‏.‏ بنيت تلك على النهي عما يؤدي به رسول الله، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى، واتباع الأمر الوعد البليغ، فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه‏.‏ انتهى، وهو كلام حسن‏.‏

‏{‏إنّا عرضنا الأمانة‏}‏‏:‏ لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول، ورتب على الطاعة ما رتب، بيّن أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم، فقال‏:‏ ‏{‏إنّا عرضنا الأمانة‏}‏، تعظيماً الأمر التكليف‏.‏ والأمانة‏:‏ الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا‏.‏ والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور، ولذلك قال أبيّ بن كعب‏:‏ من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها‏.‏ وقال أبو الدرداء‏:‏ غسل الجنابة أمانة، والظاهر عرض الإمانة على هذه المخلوقات العظام، وهي الأوامر والنواهي، فتثاب إن أحسنت، وتعاقب إن أساءت، فأبت وأشفقت، ويكون ذلك بإدراك خلقه الله فيها، وهذا غير مستحيل، إذ قد سبح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام، وحن الجذع إليه، وكلمته الذراع، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ أعطيت الجمادات فهماً وتمييزاً، فخيرت في الحمل، وذكر الجبال، مع أنها مع الأرض، لزيادة قوتها وصلابتها، تعظيماً للأمر‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ عرضت بمسمع من آدم، عليه الصلاة والسلام، وأسمع من الجمادات الإباء ليتحقق العرض عليه، فيتجاسر على الحمل غيره، ويظهر فضله على الخلائق، حرصاً على العبودية، وتشريفاً على البرية بعلو الهمة‏.‏ وقيل‏:‏ هو مجاز، فقيل‏:‏ من مجاز الحذف، أي على من فيها من الملائكة، وقيل‏:‏ من باب التمثيل‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى محمله والاستقلال به، وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته‏.‏ ‏{‏إنه كان ظلوماً جهولاً‏}‏، حيث حمل الأمانة، ثم لم يف بها‏.‏ ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم‏.‏ من ذلك قول العرب‏:‏ لو قيل للشحم أين تذهب لقيل‏:‏ أسوي العوج‏.‏ وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات‏!‏ وتصور مقالة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه؛ فصوّر أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف؛ وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها‏.‏

فإن قلت‏:‏ قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد‏:‏ أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حال تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضي على إحداهما بحال من يتردى في ذهابه، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه، وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، فليس كذلك ما في الآية‏.‏ فإن عرض الأمانة على الجماد، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم، فكيف صح بها التمثيل على المحال‏؟‏ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئاً، والمشبه به غير معقول‏.‏ قلت‏:‏ الممثل به في الآية، وفي قولهم‏:‏ لو قيل للشحم أين تذهب‏؟‏ وفي نظائره مفروض، والمفروض أن يتخيل في الذهن‏.‏ كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال المفروض، لو عرضت على السموات والأرض والجبال ‏{‏فأبين أن يحملنها وأشفقن منها‏}‏‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها، وهو ما تأتى من الجمادات، حيث لم يمتنع على مشيئته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏قالتا أتينا طائعين‏}‏ وأما الإنسان، فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان صالح للتكليف، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد‏.‏ والمراد بالأمانة‏:‏ الطاعة، لأنها لازمة للوجود‏.‏ كما أن الأمانة لازمة للأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز‏.‏ وحمل الأمانة من قولك‏:‏ فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها، وهو حامل لها‏.‏ ألا تراهم يقولون‏:‏ ركبته الديون‏؟‏ ولي عليه حق‏؟‏ فأبين أن لا يؤدونها، وأبى الإنسان أن لا يكون محتملاً لها لا يؤديها‏.‏ ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها‏.‏ انتهى، وفيه بعض حذف‏.‏

وقال قوم‏:‏ الآية من المجاز، أي إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأيتهما أنهما لا تطيقها، وأنها لو تكلمت، لأبتها وأشفقت عنها؛ فعبر عن هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏إنا عرضنا‏}‏ الآية، وهذا كما تقول‏:‏ «عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد بذلك مقارنة قوته بثقل الحمل، فرأيتها تقصر عنه؛ ونحوه قول ابن بحر» معنى عرضنا‏:‏ عارضناها وقابلناها بها‏.‏ ‏{‏فأبين أن يحملنها‏}‏‏:‏ أي قصرن ونقصن عنها، كما تقول‏:‏ أبت الصنجة أن تحمل ما قابلها‏.‏ ‏{‏وحملها الإنسان‏}‏، قال ابن عباس، وابن جبير‏:‏ التزم القيام بحقها، والإنسان آدم، وهو في ذلك ظلوم نفسه، جهول بقدر ما دخل فيه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ما تم له يوم حتى أخرج من الجنة‏.‏ وقال الضحاك، والحسن‏:‏ وحملها معناه‏:‏ خان فيها، والإنسان الكافر والمنافق والعاصي على قدره‏.‏

وقال ابن مسعود، وابن عباس أيضاً‏:‏ ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه هابيل، وكان قد تحمل لأبيه أمانة أن يحفظ الأهل بعده، وكان آدم مسافراً عنهم إلى مكة، في حديث طويل ذكره الطبري‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ عرض الأمانة‏:‏ وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات‏.‏ والحمل‏:‏ الخيانة، كما تقول‏:‏ حمل خفي واحتمله، أي ذهب به‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة *** وتحمل أخرى أخرجتك الودائع

انتهى‏.‏ وليس وتحمل أخرى نصاً في الذهاب بها، بل يحتمل لأنك تتحمل أخرى، فتؤدي واحدة وتتحمل أخرى، فلا تزال دائماً ذا أمانات، فتخرج إذ ذاك‏.‏ واللام في ‏{‏ليعذب‏}‏ لام الصيرورة، لأنه لم يحملها لأن يعذب، لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك، ويتوب على من آمن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لام التعليل على طريق المجاز، لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب، كما أن التأديب في‏:‏ ضربته للتأديب، نتيجة الضرب‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ فيتوب، يعني بالرفع، بجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدئ ويتوب‏.‏ ومعنى قراءة العامة‏:‏ ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا ثبت على أن الواو في وكان ذلك نوعان من عذاب القتال‏.‏ انتهى‏.‏ وذهب صاحب اللوامح أن الحسن قرأ ويتوب بالرفع‏.‏

سورة سبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏3‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏6‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏7‏)‏ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

هذه السورة، قال في التحرير، مكية بإجماعهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ مكية إلا قوله‏:‏ ‏{‏ويرى الذين أوتوا العلم‏}‏، فقالت فرقة‏:‏ مدنية فيمن أسلم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأشباهه‏.‏ انتهى‏.‏ وسبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة، لما سمعوا ‏{‏ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات‏}‏ إن محمداً يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت، ويخوّفنا بالبعث، واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبداً، ولا نبعث‏.‏ فقال الله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد ‏{‏بلى وربي لتبعثن‏}‏ قاله مقاتل؛ وباقي السورة تهديد لهم وتخويف‏.‏ ومن ذكر هذا السبب، ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها‏.‏

‏{‏الحمد لله‏}‏‏:‏ مستغرق لجميع المحامد‏.‏ ‏{‏وله الحمد في الآخرة‏}‏‏:‏ ظاهره الإستغراق‏.‏ ولما كانت نعمة الآخرة مخبراً بها، غير مرئية لنا في الدنيا، ذكرها ليقاس نعمها بنعم الدنيا، قياس الغائب على الشاهد، وإن اختلفا في الفضيلة والديمومة‏.‏ وقيل‏:‏ أل للعهد والإشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏وآخر دعواهم أن الحمد لله‏}‏ أو إلى قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ الفرق بين الحمدين وجوب الحمد في الدنيا، لأنه على نعمه متفضل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة، وهي الثواب‏.‏ وحمد الآخرة ليس بواجب، لأنه على نعمة واجبة الاتصال إلى مستحقها، إنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم يلتذون به‏.‏ انتهى، وفيه بعض تلخيص‏.‏

‏{‏يعلم ما يلج في الأرض‏}‏، من المياه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ من الأموات والدفائن‏.‏ ‏{‏وما يخرج منها‏}‏، من النبات‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ من جواهر المعادن‏.‏ ‏{‏وما ينزل من السماء‏}‏، من المطر والثلج والبرد والصاعقة والرزق والملك‏.‏ ‏{‏وما يعرج فيها‏}‏، من أعمال الخلق‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ وما ينزل من الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ من الأقضية والأحوال والأدعية والأعمال‏.‏ وقيل‏:‏ من الأنعام والعطاء‏.‏ وقرأ عليّ، والسلمي‏:‏ وما ينزل بضم الياء وفتح النون وشد الزاي، أي الله تعالى‏.‏ وبلى جواب للنفي السابق من قولهم ‏{‏لا تأتينا الساعة‏}‏، أي بلى لتأتينكم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لتأتينكم‏}‏ بتاء التأنيث، أي الساعة التي أنكرتم مجيئها‏.‏ وقرأ طلق عن أشياخه بياء الغيبة، أي ليأتينكم البعث، لأنه مقصودهم من نفي الساعة أنهم لا يبعثون‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو على معنى الساعة، أي اليوم، أو على إسناده إلى الله على معنى ليأتينكم أمر عالم الغيب كقوله‏:‏ ‏{‏أو يأتي ربك‏}‏ أي أمره‏.‏ ويبعد أن يكون ضمير الساعة، لأنه مذهوب به مذهب التذكير، لا يكون إلا في الشعر، نحو قوله‏:‏

ولا أرض أبقل أبقالها *** ثم أكد الجواب بالقسم على البعث، واتبع القسم بقوله‏:‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏ وما بعده، ليعلم أن إنباتها من الغيب الذي تفرد به تعالى‏.‏ وجاء القسم بقوله‏:‏ ‏{‏وربي‏}‏ مضافاً إلى الرسول، ليدل على شدّة القسم، إذ لم يأت به في الاسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة، وهو لفظ الله‏.‏

وقرأ نافع، وابن عامر، ورويس، وسلام، والجحدري، وقعنب‏:‏ ‏{‏عالم‏}‏ بالرفع على إضمار هو؛ وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون مبتدأ، والخبر ‏{‏لا يعزب‏}‏‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ أو خبره محذوف، أي عالم الغيب هو، وباقي السبعة‏:‏ عالم بالجر‏.‏ قال ابن عطية، وأبو البقاء‏:‏ وذلك على البدل‏.‏ وأجاز أبو البقاء أن تكون صفة، ويعني أن عالم الغيب يجوز أن يتعرف، وكذا كل ما أضيف إلى معرفة مما كان لا يتعرف بذلك يجوز أن يتعرف بالاضافة، إلا الصفة المشبهة فلا تتعرف بإضافة‏.‏ ذكر ذلك سيبويه في كتابة، وقل من يعرفه‏.‏ وقرأ ابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي‏:‏ علام على المبالغة والخفض، وتقدّمت قراءة يعزب في يونس‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا أصغر من ذلك ولا أكبر‏}‏، برفع الراءين، واحتمل أن يكون معطوفاً على ‏{‏مثقال‏}‏، وأن يكون مبتدأ، والخبر في قوله‏:‏ ‏{‏إلا في كتاب‏}‏‏.‏ وعلى الاحتمال الأول، يكون ‏{‏إلا في كتاب مبين‏}‏ توكيداً لما تضمن النفي في قوله‏:‏ ‏{‏لا يعزب‏}‏، وتقديره‏:‏ لكنه في كتاب مبين، وهو كناية عن ضبط الشئ والتحفظ به، فكأنه في كتاب، وليس ثم كتاب حقيقة‏.‏ وعلى التخريج الأول، يكون الكتاب هو اللوح المحفوظ‏.‏ وقرأ الأعمش، وقتادة‏:‏ بفتح الراءين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ عطفاً على ‏{‏ذرة‏}‏‏.‏ ورويت عن أبي عمرو، وعزاها أيضاً إلى نافع، ولا يتعين ما قال، بل تكون لا لنفي الجنس، وهو مبتدأ، أعني مجموع لا وما بني معها على مذهب سيبويه، والخبر ‏{‏إلا في كتاب مبين‏}‏، وهو من عطف الجمل، لا من عطف المفردات، كما قال ابن عطية‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ جواباً لسؤال من قال‏:‏ هل جاز عطف ‏{‏ولا أصغر‏}‏ على ‏{‏مثقال‏}‏، وعطف ‏{‏ولا أصغر‏}‏ على ‏{‏ذرة‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ يأبى ذلك حرف الاستثناء، إلا إذا جعلت الضمير في عنه للغيب، وجعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح، لأن إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يزول عنه إلا مسطوراً في اللوح‏.‏ انتهى‏.‏ ولا يحتاج إلى هذا التأويل إذا جعلنا الكتاب المبين ليس اللوح المحفوظ‏.‏ وقرأ زيد بن على‏:‏ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، بخفض الراءين بالكسرة، كأنه نوى مضافاً إليه محذوفاً، التقدير‏:‏ ولا أصغره ولا أكبره، ومن ذلك ليس متعلقاً بأفعل، بل هو بتبيين، لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظاً فبينه بقوله‏:‏ ‏{‏من ذلك‏}‏، أي عنى من ذلك، وقد جاءت من كون أفعل التفضيل مضافاً في قول الشاعر‏:‏

تحن نفوس الورى وأعلمنا *** بنا يركض الجياد في السدف

وخرج على أنه أراد علم بنا، فأضاف ناوياً طرح المضاف إليه، فاحتملت قراءة زيد هذا التوجيه الآخر‏:‏ أنه لما أضاف أصغر وأكبر على إعرابهما حالة الإضافة، وهذا كله توجيه شذوذ، وناسب وصفه تعالى بعالم الغيب، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات، فاندرج في ذلك وقت قيام الساعة، وصار ذلك دليلاً على صحة ما أقسم عليه، لأن من كان عالماً بجميع الأشياء كلها وجزئها، وكانت قدرته ثابتة، كان قادراً على إعادة ما فنى من جميع الأرواح والأشباح‏.‏

قيل‏:‏ وقوله ‏{‏مثقال ذرة في السموات‏}‏، إشارة إلى علمه بالأرواح، ‏{‏ولا في الأرض‏}‏، إشارة إلى علمه بالأشياء‏.‏ وكما أبرزهما من العدم إلى الوجود أولاً، فكذلك يعيدهما ثانياً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف يكون بمعنى اليمين مصححة لما أنكروه‏؟‏ قلت‏:‏ هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها بالحجة القاطعة، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ليجزي‏}‏، فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء، وأن المحسن لا بد له من ثواب، والمسيء لا بد له من عقاب‏.‏ انتهى، وفي السؤال بعض اختصار، وفيه دسيسة الاعتزال‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏ليجزي‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏لا يعزب‏}‏، وقيل‏:‏ بقوله ‏{‏لتأتينكم‏}‏، وقيل‏:‏ بالعامل ‏{‏في كتاب مبين‏}‏‏:‏ أي إلا مستقراً في كتاب مبين ليجزي‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ معجزين مخففاً، وابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السماك‏:‏ مثقلاً وتقدّم في الحج، أي معجزين قدرة الله في زعمهم‏.‏ وقال ابن الزبير‏:‏ معناه مثبطين عن الإيمان من أراده، مدخلين عليه العجز في نشاطه، وهذا هو سعيهم في الآيات، أي في شأن الآيات‏.‏ وقال قتادة‏:‏ مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ مراغمين‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ مجاهدين في إبطالها‏.‏ وقرأ ابن كثير وحفص وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏أليم‏}‏ هنا، وفي الجاثية بالرفع صفة للعذاب، وباقي السبعة بالجر صفة للرجز، والرجز‏:‏ العذاب السيء‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏والذين سعوا‏}‏ مبتدأ، والخبر في الجملة الثانية، وهي ‏{‏أولئك‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو منصوب عطفاً على ‏{‏الذين كفروا‏}‏، أي وليجزي الذين سعوا‏.‏ واحتمل أن تكون الجملتان المصدرتان بأولئك هما نفس الثواب والعقاب، واحتمل أن تكونا مستأنفتين، والثواب والعقاب ما تضمنتا مما هو أعظم، كرضا الله عن المؤمن دائماً، وسخطه على الفاسق دائماً‏.‏ قال العتبي‏:‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏ويرى‏}‏ استئناف إخبار عمن أوتي العلم، يعلمون القرآن المنزل عليك هو الحق‏.‏ وقيل‏:‏ ويرى منصوب عطفاً على ليجزي، وقاله الطبري والثعلبي؛ وتقدّم الخلاف في ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ في ذلك المكان الذي نزلت فيه هذه السورة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علماً لا يزاد عليه في الاتفاق، ويحتجوا به على الذين كفروا وتولوا‏.‏ ويجوز أن يريد‏:‏ وليعلم من لم يؤمن من الأخيار أنه هو الحق، فيزداد حسرة وغماً‏.‏ انتهى‏.‏ وإنما قال‏:‏ عند مجيء الساعة، لأنه علق ليجزي بقوله‏:‏ ‏{‏لتأتينكم‏}‏، فبنى التخريج على ذلك‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ الحق بالنصب، مفعولاً ثانياً ليرى، وهو فصل؛ وابن أبي عبلة‏:‏ بالرفع جعل هو مبتدأ والحق خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى، وهو لغة تميم، يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ، قاله أبو عمر الجرمي‏.‏

والظاهر أن الفاعل ليهدي هو ضمير الذي أنزل، وهو القرآن، وهو استئناف إخبار‏.‏ وقيل‏:‏ هو في موضع الحال على إضمار، وهو يهدي، ويجوز أن يكون معطوفاً على الحق، عطف الفعل على الاسم، كقوله‏:‏ ‏{‏صافات ويقبضن‏}‏ أي قابضات، كما عطف الاسم على الفعل في قوله‏:‏

فألفيته يوماً يبير عدوه *** وبحر عطاء يستحق المعابرا

عطف وبحر على يبير، وقيل‏:‏ الفاعل بيهدي ضمير عائد على الله، وفيه بعد‏.‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏‏:‏ هم قريش، قال بعضهم لبعض على جهة التعجب والاستهزاء، كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه‏:‏ هل أدلك على قصة غريبة نادرة‏؟‏ لما كان البعث عندهم من المحال، جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه، وأتوا باسمه، عليه السلام، نكرة في قوله‏:‏ ‏{‏هل ندلكم على رجل‏}‏‏؟‏ وكان اسمه أشهر علم في قريش، بل في الدنيا، وإخباره بالبعث أشهر خبر، لأنهم أخرجوا ذلك مخرج الاستهزاء والتحلي ببعض الأحاجي المعمولة للتلهي والتعمية، فلذلك نكروا اسمه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ينبئكم‏}‏ بالهمز؛ وزيد بن علي‏:‏ بإبدال الهمزة ياء محضة‏.‏ وحكى عنه الزمخشري‏:‏ ينبئكم، بالهمز من أنبأ، وإذا جوابها محذوف تقديره‏:‏ تبعثون، وحذف لدلالة ما بعده عليه، وهو العامل إذا، على قول الجمهور‏.‏ وقال الزجاج ذلك، وقال أيضاً هو والنحاس‏:‏ العامل ‏{‏مزقتم‏}‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هو خطأ وإفساد للمعنى‏.‏ وليس بخطأ ولا إفساد للمعنى، وإذا الشرطية مختلف في العامل فيها، وقد بينا ما كتبناه في ‏(‏شرح التسهيل‏)‏ أن الصحيح أن يعمل فيها فعل الشرط، كسائر أدوات الشرط‏.‏ والجملة الشرطية يحتمل أن تكون معمولة لينبئكم، لأنه في معنى يقول لكم‏:‏ ‏{‏إذا مزقتم كل ممزق‏}‏، ثم أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنكم لفي خلق جديد‏}‏‏.‏ ويحتمل أن يكون‏:‏ ‏{‏إنكم لفي خلق جديد‏}‏ معمولاً لينبئكم، ينبئكم متعلق، ولولا اللام في خبر إن لكانت مفتوحة، فالجملة سدت مسد المفعولين‏.‏ والجملة الشرطية على هذا التقدير اعتراض، وقد منع قوم التعليق في باب أعلم، والصحيح جوازه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

حذار فقد نبئت أنك للذي *** ستنجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى

وممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول، على القياس في اسم المصدر من كل فعل زائد على الثلاثة، كقوله‏:‏

ألم تعلم بمسرحي القوافي *** فلا عيابهن ولا اجتلابا

أي‏:‏ تسريحي القوافي‏.‏ وأجاز الزمخشري أن يكون ظرف مكان، أي إذا مزقتم في مكان من القبور وبطون الطير والسباع، وما ذهبت به السيول كل مذهب، وما نسفته الرياح فطرحته كل مطرح‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏جديد‏}‏، عند البصريين، بمعنى فاعل، تقول‏:‏ جد فهو جاد وجديد، وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏أفترى‏}‏ من قول بعضهم لبعض، أي هو مفتر، ‏{‏على الله كذباً‏}‏ فيما ينسب إليه من أمر البعث، ‏{‏أم به‏}‏ جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه‏.‏

عادلوا بين الافتراء والجنون، لأن هذا القول عندهم إنما يصدر عن أحد هذين، لأنه إذا كان يعتقد خلاف ما أتى به فهو مفتر، وإن كان لا يعتقده فهو مجنون‏.‏ ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال‏:‏ ‏{‏هل ندلكم‏}‏، ردد بين الشيئين ولم يجزم بأحدهما، حيث جوز هذا وجوز هذا، ولم يجزم بأنه افتراء محض، احترازاً من أن ينسب الكذب لعاقل نسبة قطعية، إذ العاقل حتى الكافر لا يرضى بالكذب، لا من نفسه ولا من غيره، وأضرب تعالى عن مقالتهم، والمعنى‏:‏ ليس للرسول كما نسبتم ألبتة، بل أنتم في عذاب النار، أو في عذاب الدنيا بما تكابدونه من إبطال الشرع وهو بحق، وإطفاء نور الله وهو متم‏.‏

ولما كان الكلام في البعث قال‏:‏ ‏{‏بل الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏، فرتب العذاب على إنكار البعث، وتقدم الكلام في وصف الضلال بالبعد، وهو من أوصاف المحال استعير للمعنى، ومعنى بعده‏:‏ أنه لا ينقضي خبره المتلبس به‏.‏ ‏{‏أفلم يروا‏}‏‏:‏ أي هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة، ‏{‏إلى ما بين أيديهم‏}‏‏:‏ أي حيث ما تصرفوا، فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم، ولا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، ولا يخرجوا عن ملكوت الله فيهما‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أعموا فلم ينظروا، جعل بين الفاء والهمزة فعلاً يصح العطف عليه، وهو خلاف ما ذهب إليه النحويون من أنه لا محذوف بينهما، وأن الفاء للعطف على ما قبل همزة الاستفهام، وأن التقدير فالم، لكن همزة الاستفهام لما كان لها الصدر قدمت، وقد رجع الزمخشري إلى مذهب النحويين في ذلك، وقد رددنا عليه هذا المذهب فيما كتبناه في ‏(‏شرح التسهيل‏)‏‏.‏ وقفهم تعالى على قدرته الباهرة، وحذرهم إحاطتها بهم على سبيل الإهلاك لهم، وكان ثم حال محذوفة، أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهور تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد‏؟‏

‏{‏إن نشأ نخسف بهم الأرض‏}‏، كما فعلنا بقارون، ‏{‏أو نسقط عليهم كسفاً من السماء‏}‏، كما فعلنا بأصحاب الظلة، أو ‏{‏أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ محيطاً بهم، وهم مقهورون تحت قدرتنا‏؟‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ النظر إلى السماء والأرض، والفكر فيهما، وما يدلان عليه من قدرة الله، ‏{‏لآية‏}‏‏:‏ لعلامة ودلالة، ‏{‏لكل عبد منيب‏}‏‏:‏ راجع إلى ربه، مطيع له‏.‏ قال مجاهد‏:‏ مخبت‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ مستقيم‏.‏ وقال أبو روق‏:‏ مخلص في التوحيد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ مقبل إلى ربه بقلبه، لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقابه من يكفر به‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ إن نشأ نخسف ونسقط بالنون في الثلاثة؛ وحمزة والكسائي، وابن وثاب، وعيسى، والأعمش، وابن مطرف‏:‏ بالياء فيهن؛ وأدغم الكسائي الفاء في الباء في نخسف بهم‏.‏

قال أبو علي‏:‏ وذلك لا يجوز، لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء، فلا تدغم فيها، وإن كانت الباء تدغم في الفاء، نحو‏:‏ اضرب فلاناً، وهذا ما تدغم الباء في الميم، كقولك‏:‏ اضرب مالكاً، ولا تدغم الميم في الباء، كقولك‏:‏ اصمم بك، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقرأ الكسائي نخسف بهم، بالإدغام، وليست بقوية‏.‏ انتهى‏.‏ والقراءة سنة متبعة، ويوجد فيها الفصيح والأفصح، وكل ذلك من تيسيرة تعالى القرآن للذكر، فلا التفات لقول أبي علي ولا الزمخشري‏.‏